وأقلتنا السيارة صباح الغد حتى بلغت بنا سفح ثور، وهو يقع إلى جنوب مكة في طريق المنحدر منها إلى اليمن، وتقوم على جانبيه إلى اليمين وإلى اليسار جبال مشابهة له كل الشبه، مع ذلك لا يعنى أحد بأن يعرف اسمها؛ لأنها لا تتصل بحادث من حوادث التاريخ.
والذهاب من مكة إلى جبل ثور ميسور اليوم كما كان ميسورا من قبل للسائر على قدميه، لكنه العثار للسيارات لكثرة رمله وتنقل هذه الرمال مع الريح تنقلا يتعذر معه بقاء طريق تمهده السيارات صالحا لسيرها فيه، ولقد غاصت بنا السيارة غير مرة، فنزلنا منها وأعنا سائقها على دفعها خلال الرمال، أو على إزاحة الرمال من حول عجلاتها، أو على رفعها إذا بلغ غوصها أن طمرت الرمال العجلات وجزءا من قاع السيارة الأسفل، وبصر بنا بعض الأعراب في إحدى وقفاتنا فأنبأنا أن الطريق التي نسير فيها كانت سوية من أسابيع مضت، وأن الطريق السوية انتقلت إلى بعيد عن يميننا، وأن من الخير أن يعدل بنا السائق إليها عند عودتنا، فلما سألناه عن المكان الذي نصعد منه ثورا أشار إلى بناء حقير على مقربة منا، وبلغناه فألفينا جماعة من أهل المنطقة جعلوا من هذا البناء مقهى يستريح فيه من يقصدون إلى الجبل ساعة صعودهم أو هبوطهم منه.
وما أظن أصحاب هذا المقهى يفيدون منه إلا قليلا، خلا ما يصيبهم من جود من يقصدون ثورا ومن لا يبتغون عندهم قهوة ولا شايا، فالأكثرون من هؤلاء يحملون معهم قوت يومهم؛ لأنهم يمضون النهار بأعلى الجبل، فإذا هبطوا كانوا أحرص على اللحاق بمكة منهم على تناول الشاي أو القهوة.
بلغت بنا السيارة هذه البنية التي يتخذها الناس علما يهتدون به إلى موضع الصعود، فترجلنا واتجهنا نحو الطريق الصاعد في سفح الجبل، وقد خيل إلينا إذ رأيناه أن تسلقه يسير، وأنه أقل مشقة من الصعود في حراء أو في جبال الطائف، كذلك كان شعوري وشعور الأصدقاء الذين جاءوا معي، وكذلك قال لنا أهل المنقطة؛ لذلك أقدمنا مقبلين على الصعود بنفوس مطمئنة وبال مستريح، ولم تكذب المقدمات ظننا على رغم حر الشمس في الضحى، ولم نر في صعود السفح عنتا يصدنا عن المضي في طريقنا أو يدعونا لنستريح إلى ظل صخرة ما لم ينل منا التعب، صعدت ببصري فخيل إلي أننا صرنا على مقربة من القمة، فهذا الجبل الذي نتسلقه قد أوفى على غاية ارتفاعه، وهذا الجبل الذي يبدو أمامنا بعيدا عنا وأكثر من ثور ارتفاعا لا بد أن يكون في سلسلة أخرى لا شأن لها بثور ولا بغاره.
آن لنا إذن أن نبلغ الغار وأن نطمئن إلى مجلس عنده ريثما نعود إليه ليحدثنا حديث الهجرة، وينشر أمامنا مما طوى الزمن ما يفيض القلب بإجلاله وتقديسه، لكني ما لبثت حينما بلغنا هذه القمة التي نتسلق السفح إليها أن ألفينا قمة وسطا بين هذا السفح الذي ارتقيناه وذلك الجبل الذي كنت أحسبه في سلسلة أخرى أكثر ارتفاعا من ثور، وأن ألفيت بين السفحين طريقا ممهدا يسير الصاعد عليه وكأنه برزخ بين الجبلين، وهو يطل على سلاسل جبال أخرى كان السفح الأول يحجبها عن النظر، وعن جانبيه ينحدر سفحان إلى أودية لم أعن نفسي بالسؤال ما اسمها، وأنا في شغل بهذا الجبل المنقسم إلى جبلين وتسلقه.
فلما اجتزنا الجسر الممهد إلى السفح من بعده سألت أصحابي: أليس بعده سفح ثالث قبل الغار؟ ونفى أصحابي وأكدوا أن الغار في قمة هذا السفح، وبدأت أتسلق كرة أخرى، فإذا طريق التسلق وعر لا يقاس طريق حراء إليه في وعورته، كنت أراني مضطرا إلى الاعتماد على ساعدي أرفع جسمي كله بهما أحيانا لتخطي مضيق هذا الطريق لا أجد وسيلة إلى تخطيه غير هذا الاعتماد، وكنت أزحف أحيانا أخرى معتمدا بيدي على جدار الطريق من صخور الجبل مخافة الانزلاق، فإذا أعياني الجهد اعتمدت بظهري على صخرة ذات ظل حتى تهدأ أنفاسي.
ولن يبلغ مني الإعياء أن يصدني عن غايتي من بلوغ الغار ما دمت قد فرضت بلوغه، فالإرادة الصادقة أقوى من كل مشقة في الحياة، فإذا عزز الإيمان الإرادة وقلت للجبل: انتقل من مكانك انتقل، وما مشقة الصعود إلى ثور وها هم أولاد أبناء المنطقة يهرعون إليه ويجرون في مساربه ومزالقه خفافا كأنهم القطا، ما ينوء أحدهم بشيء مما أنوء به، فإذا اتجهت بإرادتي إلى بلوغ الغار فأجهدني ذلك، فإنما يجهدني أنني استنمت من الحياة إلى الراحة في الحياة، ناسيا أن الراحة سبيل التعب، كما أن التعب سبيل الراحة، بل سبيل النعمة في الحياة بخير ما وهبنا الله من أنعم الحياة.
بهذه الإرادة تقدمت في ارتقاء الجبل لا ينال الجهد الذي ألقاه من عزيمتي ولا يفل التعب من قوتي، كنت أتصبب عرقا فأستند إلى الصخر وأمسح بمنديل عرقي وأعود فأتقدم مجتازا من الطريق أشده وعورة، وكنت أجد أمامي من أسباب الانزلاق وخطره ما لا أتردد في التحايل عليه وتخطيه، وتعرضت صخرة مقوسة، أنت في اجتيازها بين تسنمها، وقد تهوي بك، والانحناء للمرور من تقوسها وقد تهوي عليك، فانحنيت ومررت غير عابئ، هذا وأشعة الشمس مسلطة علي منذ بدأت الصعود تزيدني جهدا، وتزيد عرقي تصببا، وإني لكذلك إذ استدار الطريق إلى ناحية الغرب، واحتجبت بذلك عني أشعة الشمس، وأويت إلى صخرة جلست عليها أستريح كيما تهدأ أنفاسي.
وبينا أجلس قال صاحبي الذي يتقدمني: هذا هو الغار، فلم تبق إلا خطوة لتبلغه، وعدت أسير والطريق، ثم رفعت بصري إلى مصدر الصوت فإذا صاحبي معتمد في موقفه على صخرتين متقابلتين، وإذا به يشير بيده أن هلم، لكن الطريق زلق والحذاء الذي ألبسه لا يستقر عليه، فلألجأ مرة أخرى إلى الاعتماد بساعدي فوق الصخور، والاعتماد على قوتهما في رفع جسمي، وفعلت، فلم أتقدم إلا قليلا، عند ذلك انحنى صاحبي وأدنى يده مني وطلب إلي أن أعتمد عليها في صعودي، ومددت إليه يدا مسها الجهد وآذاها مس الصخور، ولم يجنح إلى قوة يعينني بها، فقد طفرت إليه فوق الحجر الزلق طفرة كنت بها إلى جواره، وصنعت صنعه فاعتمدت بقدمي على الصخرتين المتقابلتين وأمسكت بيدي صخرة ألفيتها معلقة فوق رأسي.
ها أنا ذا أمام فهوة الغار الذي احتمى به النبي العربي من كيد أعدائه حين أذن الله له في الهجرة من مكة إلى يثرب؛ وأمسك أنفاسي على شدة اضطرابها في صدري لأحدق في داخله علني أرى السر العظيم الذي يستجم منذ أربع وخمسين وثلاثمائة وألف سنة في مهابة ظلمته، ووقفت حيث أنا مشدوها مأخوذا لا أدري أأتقدم للخطوة الأخيرة فيما بعد فوهة الغار إلى سطح القمة أتفيأ ظل صخرة جاثمة تقوست فوقها تحميها من لظى الشمس أوقات الهاجرة، أم أظل حيث أنا ممسكة يدي بالصخرة حتى لا تنزلق قدمي، محدقا من فوهة الغار في داخله، أم أدخل الغار لأقيم حيث أقام الرسول - عليه السلام - في أدق الساعات التي مرت به منذ بعثه الله نبيا وهاديا ورسولا؟ وكنت أشد شوقا للدخول إلى الغار والمقام به ما استطعت، لولا أن حال زلق الصخور حيث أقف دون تنفيذ هذا العزم لساعتي، رغم جهد أنسيته أمام جلال المشهد العظيم.
ناپیژندل شوی مخ