قال صاحبي: أرأيت كيف عدا الوهابيون على آثار أهل بيت النبي ولم يرعوا لعواطف المسلمين إزاءها حرمة! وأجابه آخر: وهل كان لشيء من هذه الآثار وجود في عهد النبي؟! إنما أحدثها الذين حسبوا فيها قربي إلى الله يثابون عنها، وأزالها الذين يرون في بقائها ما لا يرضي الله والرسول؛ فالأمر من هذه الناحية نضال بين عقيدتين، وفعل الذين أزالوها أدنى في عقيدتهم إلى حكمة الإسلام وسنة الرسول، لما توفي إبراهيم ابن الرسول وتم دفنه، أمر أبوه بسد القبر، ثم سوى عليه بيده ورش الماء وأعلم عليه بعلامة، وقال: «إنها لا تضر ولا تنفع ولكنها تقر عين الحي، وإن العبد إذا عمل عملا أحب الله أن يتقنه»، ولقد سوي قبر خديجة بعد دفنها في حياة زوجها ولم يقم عليه أحد قبة في عهده، ولا أقام أحد عليه قبة في أيام خلفائه من بعده، وبقي القبر ألف سنة حتى جاء هذا الأمير الشهيد الجركسي فأقام القبة التي هدمها الوهابيون، وإنما شاع بناء القبور والقباب في عهد الانحلال، ومنذ بدأ الناس يتخذون من سبقوهم زلفى إلى الله، فليس من الحق وذلك نبأ التاريخ أن يوصف عمل الوهابيين - إذ هدموا هذه القباب - بأنه عدوان على أهل بيت النبي، إنما هو نضال بين عقيدتين كما قدمت، وما دام الباعث على بناء هذه القباب قد كان باعثا دينيا، فيجب أن ينظر في حكم إقامتها وهدمها إلى ما قرره الإسلام في كتاب الله وسنة رسوله، ولو كان الباعث لإقامة القباب غير ديني لوجب النظر في إقامتها وهدمها نظرة أخرى، ولكان حقا أن يلام الوهابيون على ما صنعوا أبلغ اللوم.
كأنما شجعت العبارة الأخيرة صاحبي، فقد انبسطت أساريره لسماعها واتجه إلي بعد أن كان يسبقنا إلى باب المقبرة وقال: ولم لا نعتبر الباعث إنسانيا هو أن تهوي أفئدة من الناس إلى أهل هذا البلد الأمين القائم بواد غير ذي زرع؟! ولم لا نعتبره دينيا دعا إليه تشجيع الذين يؤمنون بعقيدة المقابر والقباب إلى أداء فرض الله بحج بيته؟! لقد أضاع الوهابيون على مكة بهدم القباب موردا من خير موارد المال فيها، وإنهم ليحسون ذلك اليوم وبعد أن أقاموا بمكة كما نحسه، ولعلهم يأسفون على ما ضيعوا، وإن كنت في ريب من أن يجد الأسف على أمر إلى نفوسهم سبيلا.
وشاركت في الحديث فقلت: لو أنك يا صديقي رجعت الباعث على بناء هذه القباب إلى فكرة في فن العمارة لشاركتك في تأثيم الذين هدموها، فللفن جلال وسلطان في حياتنا اليومية وفي حياتنا الروحية جاهل من ينكرهما، وكان لأتباع ابن عبد الوهاب مندوحة عن هدم هذه الآثار الفنية الجميلة بتحريم التقرب إلى الله بوساطة المدفونين طي ثراها تقربا ينكره مذهبهم في الإسلام؛ ومن ثم أراهم حقيقين بالتثريب عليهم ولومهم، ولو عنف لذلك من شاء في هذا اللوم ما خالفته، لكنني في ريب من أن تفيد القباب بعد ذلك في جلب المال إلى مكة أو جعل أفئدة من الناس تهوي إلى أهلها.
أتممنا هذا الحديث ونحن في طريقنا إلى السيارة كي نجوس بها خلال مكة، وأمسك صاحبي حين ركبناها فلم يتابع حواره، وانطلقت بنا السيارة تقف عند مسجد مرة، وعند بئر أخرى، وعند دار تارة، وعند شعب أو مضيق في الجبل طورا، وكذلك فعلنا أياما تباعا، وعبد الحميد يقف مستقبلا الأثر الذي نقف عنده موقف الدليل أو الحارس يقص علي ما تسطره الكتب وما ترويه الأساطير عن كل واحد منها، بذلك حصلت فكرة، لا أقول عن آثار مكة، ولكن عما يروى عن هذه الآثار اليوم، ومنها ما هو باق يدل مظهره على شيء من القدم، ومنها ما لم يبق له على وجه الحياة أثر.
المساجد الأثرية بمكة لا شيء من الجمال ولا من الفن فيها، ولا عجب، فهي لم تقم للعبادة ولا لاجتماع الناس بها، فالناس من أهل مكة ومن زائريها من حجيج بيت الله يقصدون المسجد الحرام ولا يقصدون مسجدا غيره؛ لذلك نرى هذه المساجد الأخرى لا تزيد على مربع من الأرض تحيط به جدران غاية في البساطة، يعلو من ناحية المحراب سقف ساذج يستند إلى عمد ليست دون السقف سذاجة في بنائها، وقل أن تجد بالمسجد حصيرا أو قشا أو أي فرش يشعرك أن الناس يصلون فيه، بل الأرض فيه عارية يكسوها التراب، فإذا سألت: فيم إذن أقيمت هذه المساجد؟ علمت أنها أقيمت ذكرى لحادث وقع حيث تقوم، فهي إذن أدنى إلى أن تكون نصبا تذكاريا تحتفظ بأنباء تسجلها بطون الكتب أو يرويها الرواة منها إلى أن تكون بيوتا يذكر اسم الله فيها، أو مقصدا للناس كي يقيموا الصلاة بها.
وقفنا قبالة مقبرة المعلاة عند مسجدين متجاورين؛ أحدهما مسجد الراية، والآخر مسجد الجن، وسمي الأول مسجد الراية لما يذكر من أن الرسول - عليه السلام - ركز رايته عام الفتح حيث يقوم اليوم هذا المسجد، وسمي الآخر مسجد الجن؛ لأن الله أوحى إلى النبي في هذا المكان الذي كان الجن يستمعون فيه إليه:
قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا . ولمسجد الجن باب بأسفل الطريق غير بابه المطروق، وينزل من شاء إليه بضع درجات دون مستوى أرض المسجد، وأهل مكة يذهبون إلى أن الجن كانت تستمع في المكان الذي يؤدي هذا الباب إليه؛ ولذلك كان الناس يزورونه، وقد أقفل هذا الباب في العهد الأخير بالطين والحجر منعا للتبرك بزيارته.
وهذان المسجدان من الطراز الذي ذكرناه، والذي يعتبر طراز المساجد في مكة جميعها، وقد زرت عددا منها، بينها مسجد الإجابة ومسجد حمزة، فلم أجد ما يدعو إلى استقصاء شيء عن سائرها، ولم يكن تشابهها في العمارة هو وحده الذي أطفأ ظمأ تطلعي، بل أطفأه كذلك أنك لا تقف على نبأ صحيح للذكرى التي يقوم المسجد شاهدا عليها، فالناس لا يعرفون عن مسجد حمزة القائم بحي المسفلة أكان موضعا لمولده أم كان أثرا لنبأ لم يدون في بطون الكتب؟ وكل ما يذكره الذاكرون عن مسجد الإجابة - القائم داخل الشعب على مقربة من حراء ومن قصر الملك - أنه قائم حيث حل النبي - عليه السلام - إحرامه بعد عوده من منى، ولئن صح ذلك لكان بعد حجة الوداع، وهذا أمر لا يقطع بصحته أحد.
والحق أن تعيين الأمكنة التي نزل فيها الوحي، أو التي أوى إليها الرسول في مناسبة ما ليس أمرا ميسورا، فكتب السيرة لم تكتب إلا بعد قرنين أو نحوهما من وفاته، والحديث لم يجمع كذلك ولم يدون إلا في عهد العباسيين، وإلى يومئذ كان المسلمون في شغل بالغزو والفتح وبالثورات الأهلية عن تدوين آثار الرسول، بل لقد اختلفوا في جواز تدوينهما، حتى نادى عمر في الناس: إن من كان عنده شيء عن الرسول غير القرآن فليمحه، والخلاف واقع على آثار أدنى بطبعها إلى التحديد من المواضع التي نزل فيها الوحي بسورة من السور أو آية من الآيات، فهو واقع على أماكن لها خطرها، كتحديد مكان حنين، وهي من أشهر غزوات الرسول وفيها نزل قرآن، وتحديد منازل الوحي بالسور والآيات لم يتيسر إلا فيما اتصل من هذه السور والآيات بحوادث معينة، والخلاف مع ذلك واقع على التحديد الدقيق للمواضع التي نزلت فيها هذه الآيات والسور، وعلى الحوادث التي نزلت فيها، ولا جرم إذن أن يتعذر القول بصحة ما للمساجد القائمة اليوم من دلالة على الآثار المسندة إليها، والراجح أنها أقيمت على الظن لا على اليقين، وأقيمت لأغراض تتصل بهوى النفوس إلى مكة أكثر مما أقيمت لأغراض علمية ثابتة.
فأما ما سوى المساجد من آثار فبعضه أدنى إلى الصحة فيما يدل عليه، وإن لم يكن أوفر حظا من الثبوت العلمي لمن أراد البحث والتمحيص الدقيق.
ناپیژندل شوی مخ