يومئذ تعود مكة الحديثة المكان الذي تشخص إليه القلوب والأبصار وتتعلق به تعلق جهاد في سبيل الحق، متخذة إليه من العلم سلاحها، ومن العقل أصل دينها، ومن الزهد فيما سوى الحق حرفتها، ومن الرضا بالحق غنيمتها.
ويومئذ يرضى الله عن الإنسانية وترضى عنه، وتؤمن بأنها اهتدت الهدى الحق إلى سبيل الكمال.
ابن السعود بمكة
كنت أسمع اسم ابن السعود عاهل العرب منذ زمان طويل، فلما بدأ يغزو الأشراف، وعلى رأسهم الحسين بن علي ملك الحجاز، كنت أتتبع أنباء النزاع بين الملكين العربيين دون أن أقف طويلا عندها، فلما انتهى الأمر إلى فرار الحسين وإلى قيام علي ابنه مقامه، ثم إلى استقرار السلطان في الحجاز لابن السعود، بدأ الحديث عن هذا الفاتح النجدي لبلاد العرب يتردد في صحف الغرب والشرق، وقد لقيت إذ ذاك غير واحد من الصحفيين المشهود لهم بالاتزان وبدقة الحكم على الأشياء والأشخاص، فما كان أشد عجبي حين سمعت من أحدهم «فون فيزل» الألماني المعروف، مبالغة في الثناء على ابن السعود إلى حد نعته إياه بأنه «بسمرك الشرق».
هذا وكان «فون فيزل» قد لقي ابن السعود، وتحدث إليه وعرف مرامي سياسته، فلما اختلفت مصر والحجاز بسبب حادث المحمل في سنة 1926، حين اضطر أمير الحج المصري أن يأمر بإطلاق الرصاص دفاعا عن نفسه - فيما قيل يوم ذاك - بدأت الأنباء ترد بأن ابن السعود ورجاله يقيمون بالحجاز نوعا من الحكم لا يطيقه أهل السنة ولا غيرهم من المسلمين، وأن حكم الوهابيين بالحجاز سينتهي لذلك بعدول الأكثرين عن الحج، وأن حكومة الحجاز ستلقى من جراء ذلك شدة أي شدة.
لكن الحج استمر، وبدأت أنباء جديدة تغالب الأنباء القديمة وتتغلب عليها، فالحجاز قد أصبح مضرب المثل في الأمن بعد أن كان مضرب المثل في الفوضى، وبعد أن كان الحاج لا يأمن فيه على نفسه وأهله ولا يأمن على ماله، وطرق الحج قد بدأت تمهد وتجري فيها السيارات بما يكفل راحة الحجاج وطمأنينتهم، وقد أصبح الحج بسبب الأمن وإصلاح الطرق ميسورا قليل المشقة بعد أن كان المشقة والعسر، وقد دعت حكومة الحجاز الصحفيين في شتاء سنة 1930 إلى حفل تتويج الملك عبد العزيز، فعادوا يلهجون كلهم بالثناء على الأمن والنظام هناك، وسئلوا عن شدة الوهابيين في معاملة من لا يرخون لحاهم ومن يدخنون، فهونوا الأمر غاية التهوين، وكذلك اختفت الأنباء القديمة وجعل قصاد الحجاز يصورون الملك عبد العزيز بن السعود صورة خلابة تحببه إلى النفس وتدعو إلى الإعجاب به.
وقد ذهبت إلى قصره يوم دعيت لمقابلته غداة وصولي مكة، وفي نفسي منه صورة غير واضحة المعالم، لا تستبين فيها قسمات محياه ولا جلسته أو وقفته، ونزلت من السيارة أمام باب القصر، فتخطيته إلى حديقة غرست فيها نباتات صغيرة وأزهار، ورفعت طرفي فإذا أمامي درج فسيح لم أكد أثبت نظرتي فيه حتى التفت الذي يتقدمني إلى اليمين، وسرت وراءه، فتخطينا بابا استدرت عنده في دهليز فرش بالحصباء، ثم ألفيت إيوانا أشار مضيفي إلي أن أدخله، وتلقاني وزير المالية على بابه، وأردت أن أسرح بصري في المكان المفروش بالسجاد كي أجتلي منه صورة كاملة، لكن وزير المالية التفت إلى الناحية المقبلة للباب، فالتفت معه فألفيت رجلا ضخم الجلسة على مصطبة مفروشة بالسجاد وقد لبس عباءة - أو مشلحا على التعبير الحجازي - من الصوف البني اللون، واعتجر بصمادة مخططة بالأحمر والأبيض من فوقها عقال مذهب، وتقدم الشيخ عبد الله السليمان فأسر له شيئا، وتقدم من ورائه الشيخ عباس قطان، ثم تأخرا وتقدمت، فوقف عاهل العرب ومد إلي يده الضخمة فحياني، وأشار إلى مقعد بجانبه فجلس وجلست، وانصرف الرجلان، وبدأ جلالته الحديث بقوله: لم أقابلك من قبل ولكني أعرفك.
واغتبطت لهذه التحية الرقيقة التي لم تكن تتفق مع ما يبدو على وجه الرجل في هذه اللحظة من اشتغال باله، وأجبت: جئت أقدم التحية وأعرض الرجاء في تعاون المسلمين لرفعة هذه الأماكن المقدسة.
وكأن لم ينس الرجل ما كان بينه وبين مصر خلال السنوات العشر الأخيرة من خلاف، ولم ينس النزاع الذي استحال حربا بينه وبين إمام اليمن من سنتين، ولم ينس المناوشات التي كانت تقع على حدود العراق، ولم ينس هذه الخصومات تثور بين الأمم العربية والأمم الإسلامية آنا بعد آن؛ لذلك أسرع في الجواب على ما أبديت من رجاء بقوله: نحن لا نبتغي من الدول الإسلامية غير امتناع أذاها، ويكفينا صدق مودتها معنا، ونحن ها هنا في هذه البلاد - بفضل الله لا بإرادتنا نحن - القرآن في رقابنا، وسيوفنا في جنوبنا، وأكبر ما نغتبط له أن تجتمع كلمة المسلمين، فالمسلمون أكثرهم عرب، بل كلهم عرب، واجتماع الكلمة هو أول واجب على الدول الإسلامية.
لما رأيت هذا التحفظ من جانب الرجل، وذكرت إلى ذلك أنه سيذهب إلى منى على ركاب بعد ظهر ذلك اليوم، يوم التروية، أي: بعد ساعة أو نحوها، آثرت أن أقتحم الحديث إلى غايتي دون تمهيد لها فقلت: ونحن المسلمين نحرص على أن تكون مكة من الدول الإسلامية كجنيف من الدول الأوروبية، وأن نتعاون جميعا لرفعة هذه الأماكن المقدسة.
ناپیژندل شوی مخ