الله أكبر! ها أنا ذا بالأراضي المقدسة، بلاد النبي العربي محمد - عليه الصلاة والسلام، وبعد سويعة سأكون في الطريق إلى مكة، ما أكرمك ربي وما أعظم رحمتك ورضاك! قضيت أن نحج بيتك ويسرت لنا سبيله، فتقبل ربنا حجتنا وعمرتنا، وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
العمرة بمكة
تخطينا جمرك جدة إلى الميدان الفسيح أمامه، ووقفنا إلى جانب سيارتنا ننتظر مرور متاعنا بتفتيش الجمرك، ولم يطل انتظارنا، بل أكاد أقول: إنا لم ننتظر؛ فلم يكن بالجمرك ما يشغل رجاله عنا غير متاع الأميرة خديجة حليم وحاشيتها، ولم يتناول التفتيش هذا المتاع ولم يتناول متاعنا، فمتاع الأميرة لا يفتش لأنه متاع الأميرة، ومتاعنا لم يفتش لأننا ضيوف وزير المالية.
ولعل متاع الحجاج لا يفتش بوجه عام إلا لشبهة قوية اعتمادا على أن من جاء بيت الله حاجا لا يذكر ما يقرره عن متاعه إلا صادقا.
وإنما أوفد وزير المالية رسوله إلينا وكنت ضيفه لمناسبة أذكرها، فقد كنت عائدا من بيروت إلى مصر في 19 سبتمبر سنة 1935 على الباخرة الإيطالية «أوزونيا»، وكان وزير المالية قادما يومئذ على هذه الباخرة من مصر إلى لبنان، وتقابلنا بها حين رست ببيروت، وجاء ذكر كتابي «حياة محمد»، وسألني أحد من حضروا المجلس: هل تعتزم زيارة الحجاز؟ ولما أجبت أن ذلك بعض ما يدور بخاطري منذ أعوام، طلب وزير المالية أن أكتب إليه متى صح عزمي على السفر، وكتبت إليه قبيل سفري، فأوفد إلي رسوله في مياه جدة يبلغني أنني في ضيافته.
وكان أول مظهر لهذه الضيافة أن أقلتنا السيارة بأمر الرسول إلى فندق جدة لتناول طعام العشاء فيه قبل ذهابنا إلى مكة، والفندق للحكومة أعدته لراحة الحجاج والمسافرين من أهل البلاد؛ لذلك كان التقشف في عمارته وفي أثاثه وكل ما فيه.
ولم يطل مقامنا به، فما فرغنا من طعامنا حتى نزل إلى السيارة نركبها إلى مكة، وكذلك كان الفندق كل ما رأيت من جدة، وانطلقت السيارة متمهلة في طرق هذا البلد حتى وقفت عند مخفر الشرطة، ونزل السائق منها في ردائه البدوي الخشن يؤشر من المخفر على «الكوشان»، والكوشان جواز السفر المحلي، فليس يجوز لأحد أن ينتقل داخل الحجاز من مدينة إلى مدينة بغير جواز خاص.
وتابعت السيارة طريقها إلى خارج جدة وإلى ما وراءها من فضاء، وكان الليل قد اشتمل هذه الأرجاء جميعا في صمته ورقة نسيمه، وأجلت بصري فيما حولي وجعلت ألتمس صورة بلاد العرب المرتسمة في دخيلة نفسي، فإذا ضوء القمر يسعد الليل بلجته ويرسل تحية عذبة إلى صمت هذه الأودية قامت كثبان الرمل عن جانبيها، وارتفعت جبال يحجب سقف السيارة عنا قننها، ولم يعصمني لباس الإحرام من البرد فاتقيته متلفعا بردائي ولم ألبس مخيطا، وكأنما انتقلت إلينا عدوى الصمت المحيط بنا فأمعنا في الصمت، فلم تنفرج شفاهنا عن ألفاظ غير ألفاظ التلبية.
وبعدت السيارة عن جدة منطلقة في البيداء وحيدة لا يسعدها أنيس، على أنا لم نلبث أن مررنا بقافلة من الجمال تسير على هون متجهة إلى حيث نتجه، وخلفناها وراءنا، ثم أدركنا قافلة من الحمر أسرع منها سيرا، وتخطينا قافلة الحمر، ثم إذا بنا نسمع صوتا يقترب منا ويردد الليل صداه في خضوع وإكبار؛ أولئك جماعة من الذين لم يجدوا دابة تحملهم فساروا على أقدامهم متوجهين إلى بيت الله بقلوبهم، وإلى رب البيت بدعائهم: «لبيك اللهم لبيك»، ومررنا بهؤلاء وصوتهم يدخل إلى قلوبنا بغير استئذان فيملؤها رهبة ومهابة، وكلما فتنا واحدة من هذه القوافل أدركنا أخرى، وكلهم في إحرامهم يشتملهم ضوء القمر في لجته فيزيد بياضهم نصوعا، والأودية تحيط بها كثبان الرمل وتحجبها الجبال عما وراءها تردد تلبية الملبين من أهل هذه القوافل، وقد اتشحت من جلال هذا النداء المنبعث من قلوب كلها الإيمان والإذعان بما ملأها خضوعا وإذعانا.
كم سمعت هذه الطبيعة المحيطة بي من أصوات هذا النداء خلال مئات سنين خلت منذ بعث الله محمدا نبيا وهاديا ورسولا، أصوات لا يحصيها العد ولا يتناولها الحصر، وما يحدث في الطبيعة لا ينمحي أثره، إذن فقد ارتسمت هذه الأصوات ها هنا ونقشت على سفوح هذه الجبال، ولو أن لدينا إبرة تظهرها كما تظهر إبرة «الفونوغراف» الأصوات المسجلة على أسطواناتها لسمعنا عجبا: تلبية الملايين وألوف الملايين مرتفعة إلى بارئها في إيمان يدك الجبال، ويزعزع الرواسي ويخر له كل ما في الوجود ساجدا؛ لأنه أسمى من كل ما في الوجود برهبوت جلاله وقوة عظمته، واتصاله بمالك الملك ذي الجلال والإكرام.
ناپیژندل شوی مخ