بأعلى حرة الوبرة من ناحية الشمال مسجد وبئر مأثوران، ومأثوران بحق؛ ذلك مسجد القبلتين، وتلك بئر رومة، أما مسجد القبلتين فيقع على ربوة مرتفعة من الوبرة، وهو من طراز مساجد مكة التي لا يصلى فيها، وبه محرابان محراب داخل الجانب المسقوف منه يتجه إلى الكعبة، أي: إلى الجنوب، ومحراب في الجانب المكشوف يتجه إلى بيت المقدس، أي: إلى الشمال، والمأثور أنه
صلى الله عليه وسلم
صلى في هذا المسجد إلى بيت المقدس حتى أمره الله أن يجعل الكعبة قبلته، وذلك على رأس سبعة عشر شهرا من هجرته إلى المدينة، وحين نزل قوله - تعالى :
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، وقد كان تحول القبلة إلى الكعبة بعض ما زاد في خصومة اليهود والمسلمين، حتى لقد ذهبت يهود إلى محمد يسألونه أن يعود إلى قبلتهم فيتبعوه فأبى؛ فهو لم يحول الكعبة عن هوى منه بل إجابة لأمر ربه.
أما بئر رومة فكانت ليهودي تسمت باسمه، وكان يبيع ماءها للمسلمين، فاشتراها منه عثمان بن عفان إجابة لرغبة رسول الله، ودفع له فيها عشرين ألف درهم، وهي تقع بمجتمع أسيال المدينة، إذ تلتقي بطحان ورانوناء في مسيل العقيق ثم يتصل بها مسيل قناة.
وهذه بئر مقصودة حتى اليوم، أقيم عليها بناء أمامه بركة يسير فيها ماؤها عذبا سائغا للشاربين، وتتدفق إلى حيث تروى المزرعة المحيطة بالبئر وبالبناء القائم في جواره، وقد يكون تجوزا أن يسمى هذا البناء مسجدا وإن كان الناس يصلون فيه، فهو ليس كهيئة المساجد في عمارته، بل هو أدنى إلى أن يكون إيوانا مشرفا على البركة والبئر والمزارع حولهما.
تفصل حرة الوبرة بين المدينة ووادي العقيق، وإذا ذكر العقيق من أودية المدينة نسي الناس كل واد للعقيق سواه، فقد كان له في أنباء التاريخ من الذكر ما جعله وادي النعمة وخفض العيش والترف، يترنم الشعراء بمحاسنه، ويقص الرواة أنباء ما انطوت عليه قصوره، كان هذا الوادي الخصب الدافق بجداول المياه وبالعيون والآبار خاليا من البناء لما قدم النبي المدينة، وقد أقطعه بلال بن الحارث المزني بحجة نصها: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول الله بلال بن الحارث؛ أعطاه من العقيق ما أصلح فيه معتملا. وكتب معاوية.» ولم يصلح بلال من العقيق شيئا، فلما كانت خلافة عمر نزعه منه وأقطعه للناس، وترك له قسما صغيرا لعله يصلحه، ولم يكد عمر يفعل حتى تنافس الذين ملكوا العقيق في غرسه بساتين وجنات جعلته بهجة للناظرين، وتدفقت أموال الفتح في عصر الدولة الأموية، فبدأت القصور تقوم في عرصاته تزري بقصور الشام وما افتن الرومان في تشييده منها، وأصبح العقيق بذلك ضاحية الكبراء المترفين، ولا تزال آثار قصر سعيد بن العاص القائم بالشمال الغربي منه تشهد بذلك وتدل عليه، وكان هذا القصر مبنيا بالحجارة المطلية بالجص من الداخل والخارج بناء أبقت متانته من آثاره ما نرى منه اليوم، وكانت تحيط به بساتين غناء ورياض ممرعة ونعمة وارفة الظل؛ حتى لقد قال أبو قطيفة الشاعر يصفه ويفضله على قصور دمشق وبساتينها ورياضها:
القصر فالنخل فالجماء بينهما
أشهى إلى النفس من أبواب جيرون
وجيرون: دمشق، وسعيد بن العاص صاحب القصر كان أميرا للمدينة في عهد معاوية، فهذا القصر يرجع إذن إلى أكثر من ثلاثمائة وألف من السنين، وقد جعله سعيد موضع رياضته ونزهته وكان يدعو إليه أصحابه وندماءه ينعمون فيه بالحياة كخير ما ينعم إنسان بين الرياض الفيحاء والبساتين الغناء ومفاتن الفن المختلفة التي نافس بها أجمل قصور الشام.
ناپیژندل شوی مخ