وتخطينا بعد الكراع دهبان ثم تول وبلغنا القضيمة، وكنا أثناء ذلك على مقربة من الشاطئ لا يكاد يغيب عنا، وأغراني ذلك بالسؤال عن القديد أين هي؟ فللقديد في نبأ هجرة الرسول ذكر وأثر، عندها أدرك سراقة بن جعشم محمدا وأبا بكر ليعود بهما إلى مكة أسيرين أو يقتلهما فيفوز في الحالين بالإبل المائة التي جعلتها قريش لمن يرد محمدا إلى مكة حيا أو ميتا بعد فراره منها وإخفاق فتيانها في العثور عليه، وعندها كبا جواد سراقة بفارسه كبوة عنيفة طرحت الفارس أرضا وجعلته يتطير ويؤمن بأن الآلهة مانعة منه ضالته، هنالك وقف ونادى المهاجر العظيم وصاحبه: «أنا سراقة بن جعشم، أنظروني أكلمكم، فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه.» وطلب إلى محمد، فأمر أبا بكر فكتب له كتابا يكون آية بينه وبين النبي، وأخذ سراقة الكتاب وعاد أدراجه، وجعل يضلل الذين يطاردون محمدا وصاحبه كيلا يلحق بهما منهم أحد.
وزاد في إغرائي ما ذكره الأزرقي عن القديد عند كلامه عن مناة صنم الأزد وغسان، فقد ذكر أن عمرو بن لحي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديدا، وقد أثبتت الخرائط قديدا على مقربة من عسفان، على أن صاحبي لم يجد ما يجيبني به، مما دلني على أن قديدا ليست معروفة عند أهل الحجاز من معاصرينا، هذا على أنهم أكثر الناس تعليقا على سيرة الرسول، حتى لتراهم يضيفون إليها ما لم يرد في رواية ولا في كتاب، وتفسير إغضائهم عن قديد وغيرها من الأماكن المتصلة بالسيرة أن هذه الأماكن ليست مواضع لزيارة الحجاج وتبركهم، فهي لا تدر أخلافها من الرزق ما يدعو أهل الحجاز إلى تحقيق أمرها وإضافة الروايات والأحاديث إليها.
انطلقت السيارة من القضيمة ميممة رابغا - بعد وقفة يسيرة في «مقهى» تناولنا فيه الشاي والقهوة - وانطلقت في سرعة دونها سرعة البرق؛ لأن مياه البحر تغمر رمال الشاطئ في هذه المنطقة فتجعله صلبا صلابة الأسفلت، وتجعله تحت عجل السيارة أكثر لينا ونعومة، ولولا أماكن في الطريق بعد ما بينها وبين الشاطئ فلم يكسبها تسرب الماء إليها ما أكسب الرمال القريبة منه من تماسك وصلابة، ولولا أماكن أخرى تعاون السيل والسيارات الثقيلة فيها فقلبا رمالها ظهرا لبطن، إذن لبلغنا رابغا من القضيمة فيها دون الساعتين، لكن هذه الأماكن المتقطعة في الطريق كانت تضطر السائق ليسير الهوينى بين حين وآخر، فإذا استوى إلى أرض صلبة أطلق لعجلات السيارة العنان فانطلقت تسبق الريح وتذرها وراءها تصفر من شدة الغيظ، ولولا هذه الأماكن المتقطعة لما أملنا جدب الطريق، جدب لا تقع العين فيه على شيء يلفت النظر، لكن هذه الأماكن المضطربة بالرمال المتقلبة، وهذا الجدب الممحل الذي يمل النظر، جعلانا نشعر إذ نبلغ رابغا بحاجة إلى الراحة لا تقل عن حاجتنا إلى الطعام.
وزاد في سأمنا الطريق منظر كان يتكرر كلما هون السائق السير ووقف ليرى ما يصنع بالرمال المحيطة بعجلات السيارة، ذلك منظر المتسولين من أهل البلاد، فهم يعدون بالمئات وبالألوف، بل هم يخطئهم العد، وأنت ترى الطريق خاليا منهم، حتى إذا هدأ سير السيارة رأيتهم نبتوا على جانبيها، وما تدري أأنبتتهم الأرض أم قذفت بهم الهضاب من أعاليها كما تحط السيول الأحجار من القمم العالية، ومنظر هؤلاء المتسولين قل أن يثير في النفس عاطفة الرحمة، وإن كانوا يجيئون إليك عراة أغلب أمرهم ليس عليهم لباس إلا ما يستر العورة، فأما النساء والبنات فيتقدمن كاسيات ولكنهن لسن دون الرجال والشبان إلحافا ومسألة، وهم يقبلون على السيارة تسابقها سيقانهم الدقيقة وقد مدوا أيديهم يصيحون: «يا حاج، يا بويا، هلله، وحياة النبي، بالسلامة ...» إلى آخر الأنشودة التي حفظوها على كر السنين عن ظهر قلب، يتوارثها الأبناء عن الآباء، والحفدة عن الأجداد، ولولا أن الحجاج، والحاجات بنوع خاص، يشعرون بأن الإحسان إلى هؤلاء المتسولين من تمام الحج، وأن فيه استجابة لقوله - تعالى:
فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم
لرغب أكثرهم عن بذل الصدقة لهؤلاء المتسولين، وأكثرهم أصحاء مفتولو العضل أقوياء البنية، وأكثرهم يرى هذا التسول صناعة مباحة للارتزاق، ويرى فرضا على هؤلاء الحجاج أن يحسنوا ويعطوهم، وإذا كان شيء في هذه الظاهرة النفسية يثير الإشفاق فليس ذلك ما عليه هؤلاء المتسولون من فقر لا يعلم أحد مداه، بل ما هم عليه من جهل وتدل في مراتب الإنسانية إلى حضيض ما أجدر القائمين بالأمر في الحجاز أن ينزهوا أهل الحجاز عنه! سموا بالإنسانية عن المذلة، وبالإسلام عن الهوان.
فهؤلاء المتسولون إنما هم بعد من بني الإنسان، وهم بعد مسلمون، والإسلام يأبى على بني الإنسان أن يبلغ التفاوت بينهم حتى يكون أحدهم حيوانا أو دون الحيوان مكانة، في حين ينعم الآخر ببلهنية العيش ومتع الحياة وبأسباب الترف جميعا، وهؤلاء المتسولون دون الحيوان في تصورهم الحياة وفي إدراكهم ما حولهم، أقبل أحدهم يلهث نحو حاج ويقول مستجديا: «وحياة النبي!» فسأله الحاج: ما اسم النبي؟ فبهت السائل في بله ولم يحر جوابا، هو إنما يكرر كلمتين - وحياة النبي - تكرارا آليا كما يكررها الببغاء أو «الفونوغراف» دون أن يعرف لهما معنى أو مدلولا، وهو يجري سائلا يلتمس القوت كما يلتمسه الكلب، وقد كان صاحبه قاطع الطريق يجري قبل عهد الوهابيين يلتمس القوت نهبا كما يلتمسه الذئب، بل لعل هذا السائل أحط في قدر الإنسانية من المجرم إن جاز أن تعقد مثل هذه الموازنة، فالمجرم حيوان مفترس والمتسول حيوان مهين، فإذا هما تساويا في الحيوانية فالمفترس - لا ريب - خير مكانا من الذليل المهين.
وأحسب هذه المراتب الإنسانية الدنيا منتشرة ها هنا حيث الجهل ضارب أطنابه، لقد سمعنا جميعا اسم رضوى يتكرر في الشعر العربي القديم، ولا يزال الكثيرون منا يتغنون بثبير ورضوى كما يتغنون بجبلي نعمان، ولعل من شعرائنا المصريين في العصور المتأخرة من ورد اسم رضوى في شعره، ذكره حين أراد أن يتخيل جبلا أو يتمثل ما يدل الجبل عليه فكان اسم رضوى أقرب إلى ذاكرته من اسم سيناء، ذكر لي من عرفت بالحجاز حديثا عن رضوى أثار مني كوامن الدهشة جميعا، فهذا الجبل يمتد في طريق المدينة إلى ينبع، ومنطقة المدينة وما حاذاها أكثر اتصالا بالحضارة من كثير من مناطق بلاد العرب؛ لأنها أدناها إلى الشمال وأيسرها اتصالا بالشام ومصر، كذلك كانت في عهد النبي وفي صدر الإسلام، وكذلك هي اليوم، ولقد زار وزير المالية الشيخ عبد الله سليمان رضوى منذ سنوات قليلة، واستصحب معه أمين مكة الشيخ عباس قطان، كما استصحب قوة من الجند، وعدة للمقام من خيام وأدوات للطهي وطهاة ومن إليهم، وتسلق القوم إلى قمة رضوى فرأوا عجبا: رأوا قوما لم ينزلوا السهل حياتهم، ويرون في نزوله المعرة الكبرى، فإذا احتاجوا إلى شيء مما فيه فأتباعهم وضعافهم هم الذين ينزلون، ورأوا هؤلاء القوم يعيشون في الكهوف والمغارات عيش الحيوان المفترس، ورأوا أحدهم إذا ظفر بغنيمة مما كانوا يذبحون فر بها إلى كهفه وأوى إليه وانبعث ينهشها كما ينهش الحيوان المفترس فريسته، وجعل يذب عنها من يحاول اقتحام الكهف عليه بأن يدفعه برجله كما يفعل الذئب أو النمر، أفيتصور أحد هذه الحياة في بلاد العرب وعلى مقربة من المدينة؟! أما أنا فدهشت لها أول ما سمعت نبأها، ثم خفت دهشتي حين ادكرت من رأيت من الأعراب بالشفا من جبال الطائف، وما أحسب الفرق بين هؤلاء وأعراب رضوى ببالغ أن يثير الدهشة.
يأبى الإسلام أن يبلغ التفاوت بين بني الإنسان حتى ينكر بعضهم بعضا، ذلك أساسه في أمور الرزق، وهو أساسه في الحياة الروحية؛ فهو دين إخاء يرتفع بالإخاء إلى أسمى مراتبه، ويرى لذلك أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأين الإيمان في أمة يتناكر بنوها فينكر أحدهم أمر صاحبه، فإذا عرف أمره دهش له وأخذ منه العجب؟ وأين الإخاء في أمة يعيش نصف أبنائها حفاة عراة، رزقهم من التسول، وسعادتهم في الجهل، وطمأنينتهم إلى العيش في قنن الجبال، ويعيش النصف الآخر في حضر أو ما يشبه الحضر؟ ليس هذا من دين محمد في شيء، بل الإسلام عدو لهذا التفاوت الظالم وهذا التناكر الذي يمقت الإخاء ويمقته الإخاء، وإن دينا يدعو عمر بن الخطاب ليقول لعلي بن أبي طالب وقد اقتضاه غريم أمرا: «ساو خصمك يا أبا الحسن.» فيساوي علي خصمه في مجلس القضاء، وينكر على عمر أن يدعوه «أبا الحسن»؛ لما في الكنية من تعظيم لا يتفق مع المساواة، لأثبت أساسا من أن يقر تفاوتا مبلغه من الجور ما ذكرت، ويأبى هذا الدين أن يقر التفاوت الروحي؛ فهو لا يجعل لطائفة من الناس فضلا على طائفة إلا بالتقوى، ويجعل العلم وما يدعو إليه من تحاب في الله وقضاء على غرور النفس ببلوغ المعرفة الحقة أساس الهدى ومنارة الإيمان؛ لذلك كان العلماء فيه ورثة الأنبياء، والعلماء الصادقون كالأنبياء الصادقين يؤثرون هدى الناس على طمأنينة أنفسهم بل على حياتهم، ويبذلون من ثم للناس كل أسباب العلم حتى يبلغوا به غاية ما يستطيع المرء بلوغه من الهدى.
بلغنا رابغا بعد زوال الشمس بساعة أو نحوها، فلبغنا بذلك حضرا لم نر شيئا منه منذ تركنا جدة، وهو على تواضعه حضر يقف النظر عنده، فقد وقفت بنا السيارة أمام بناء فسيح يشبه السوق، في جانب منه مقاعد لمقهى يجلس الناس فيه يتناولون الطعام والشاي والقهوة، وإلى الجانب الآخر من الطريق قامت مبان أحدها مخفر البوليس، وبعضها حوانيت تعرض للبيع ألوانا شتى من الطعام وغير الطعام، وسألت أصحابي: أين نلتمس الراحة ونتناول الطعام؟ فأشاروا إلى بناء متصل بالسوق زعموه فندقا ... ودرنا نلتمس في هذا الفندق غرفة نأوي إليها، فإذا أنا أمام غرف حقيرة لا أدري مم بنيت، وليس يغطي أرضها حصير ولا ما دون الحصير، على أن أصحاب المقهى توسموا فينا الخير فجاءوا بحصير قديم نشروه في إحدى الغرف، وجئنا من متاعنا بسجاجيد الصلاة ففرشناها فوقه، وذكر أصحابي من أهل مكة أن برابغ سمكا صالحا للطعام يطهى لساعته، فطلبت إليهم أن يجيئونا منه بما يكفينا، وإنا لنعد لراحتنا ولطعامنا إذ أقبل علينا رجل الجندية فتقدم بالتحية وعرض علي ضيافته، وشكرته وأبديت له أني مطمئن حيث نزلت، وأن حاجتي إلى الراحة تمسكني دون القيام ودون اتباعه إلى شاطئ البحر أو إلى المخفر أو إلى أي مكان غير هذا المكان الذي أنا به، وابتسم الرجل وبادلني من التحيات ما ضاعف شكري، ثم تركنا وانصرف مكررا ساعة انصرافه أنه يود لو يكون في خدمتنا فيكون بذلك سعيدا.
ناپیژندل شوی مخ