أسواق العرب
لست أريد أن أتحدث في هذا الفصل عن أسواق العرب في هذا العصر الحاضر، ولو أنني أردت لما وجدت غير ما قلته في الفصل الذي تقدم عن مكة الحديثة، وما ذكرته عن سوق منى حين الحج، وعن سوق الطائف، وما سأجعله موضع حديثي عند الكلام عن مدينة الرسول، ولست أريد أن أتحدث هنا عن أسواق العرب أيام الجاهلية وفي صدر الإسلام بوجه عام، وإنما أريد أن أتحدث عما له اتصال منها بحياة النبي العربي، وما يدخل لذلك في منزل الوحي، وهذه الأسواق ثلاثة: عكاظ، ومجنة، وذو مجاز أو ذو المجاز.
وسوق عكاظ هي التي تلفت نظر كل مسلم وكل عربي إذا ذكرت هذه الأسواق الثلاث، فمجنة وذو مجاز لم تذكرا في كتب التاريخ والأدب ما ذكرت سوق عكاظ، وهما إنما تذكران عند الكلام عن الحج وشعائره وتكادان تتصلان بهذه الشعائر، أما عكاظ فلا يخلو كتاب من كتب الأدب العربي من الكلام عنها، وقد صار اسمها علما على كل مجتمع يضم الآلاف وعشرات الآلاف من الناس، ويكون حديث الشعر والأدب مما يجري فيه، وكثيرون يذكرون هذا الاسم كما يذكر غيرهم اسم برج بابل على أنه مجتمع الأمم وملتقى الناس من مختلف أنحاء الأرض؛ من ثم كان لهذا الاسم من ذيوع الشهرة ما يجعل كل زائر بلاد العرب وكل متجول بأم القرى وما حولها حريصا على أن يعرف أين كان مكانه، وما صار هذا المكان اليوم إليه، ومتى بدأت سوق عكاظ تقام به، ومتى عفت الحوادث عليه؟
ومن عجب أن ليس لعكاظ على استفاضة شهرتها تاريخ مدون في بطون الكتب على نحو يستطيع الإنسان أن يطمئن إليه، فلم يحقق أحد الزمن الذي بدأ العرب يقيمونها فيه، وأدق ما يروى عن ذلك انها اتخذت سوقا في الجاهلية بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة، والخلاف على عام الفيل وتحديده مستفيض كشهرة عكاظ، ولا أدل على ذلك من نسبة عام الفيل إلى مولد الرسول، فقد قيل: إنه - عليه السلام - ولد عام الفيل، ويقول ابن عباس: إنه ولد يوم الفيل، والمشهور أنه ولد في سنة 570 ميلادية، وإذن يكون عام الفيل كذلك سنة 570 ميلادية، لكن آخرين يقولون: إنه ولد قبل الفيل بخمس عشرة سنة، ويذهب غير هؤلاء إلى أنه ولد بعد الفيل بأيام، وبأشهر، وبسنين يقدرها قوم بثلاثين سنة ويقدرها قوم بسبعين، فما هو التاريخ الصحيح لعام الفيل؟ إن الذين يروون أن عكاظا أقيمت بعد الفيل بخمس عشرة سنة يذهبون إلى أنها أقيمت سنة 540 للميلاد، إذن لقد كان عام الفيل في رأيهم سنة 525م وقد ولد محمد سنة 570م، فهو إذن قد ولد على قولهم بعد عام الفيل بخمس وأربعين سنة، وهذا كلام يقع عليه خلاف شديد، ولا يسلم له إلا الأقلون.
وليس تحديد المكان الذي كانت عكاظ تقوم به بأيسر من تحديد التاريخ الذي اتخذ هذا المكان فيه سوقا، وأكثر الأقوال في هذا الشأن تواترا أن هذه السوق كانت بين نخلة والطائف، لكن ما بين نخلة والطائف يبلغ الخمسين ميلا أو يزيد عليها، فأين كانت السوق تقام من قطر هذه الدائرة؟ وهل كانت ثابتة في مكان بذاته أو متنقلة في أماكن مختلفة؟ أكثر الكتب على أنها كانت ثابتة في مكان بذاته، لكن تحديد هذا المكان أمر غير محقق، وعدم تحقيقه يبدو واضحا ويبدو محيرا لمن سار بين مكة والطائف وحاول أن يعرف موضعه بشيء من الدقة، فهو يجد نفسه أمام روايات تزيد على الخمس؛ منها أن عكاظا تقع بآخر وادي ركبة المتصل بوادي عشيرة، ومنها أنها بوادي عقرب في شرق الطائف بعد قليل من أم الحمد أو أم الحمض، ومنها أنها عند السيل الصغير بالموضع المعروف باسم القهاوي، ومنها أنه بالسيل الكبير إلى ناحية الشمال في موضع يقال له: الخر، في وادي غسلة، وهذه الأماكن كلها يصدق عليها أنها بين نخلة والطائف، ومع ما كتبه المتقدمون عن عكاظ وموضعها لا تستطيع أنت إذ تمر بهذه الأماكن جميعا أن تثبت رأيا دون رأي، فإذا رجحت رأيا هداك إليه بحثك لم يزد ذلك على أنه ترجيح لا يمكن القطع بصحته، وهذا ما فعلته بعد الذي قمت به من بحوث أعرضها في هذا الفصل.
على أن الخلاف في تحديد هذا المكان الذي تقوم به عكاظ والزمان الذي أنشئت فيه لا يتصل بتصوير ما كان يقع بها أثناء إقامتها ولا بالموعد الذي كانت تقام فيه، فاتفاق المؤرخين على أن العرب كانوا إذا أزمعوا الحج إلى مكة من أصقاع شبه الجزيرة جعلوا عكاظا موعدهم في هلال ذي القعدة فأقاموا بها عشرين يوما ثم انصرفوا إلى مجنة فأقاموا بها عشرا، فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز فأقاموا أسواقهم به ثماني ليالي، ثم ترووا من مائها في اليوم الثامن وخرجوا إلى عرفة، وبدهي أن الذين كانوا يحضرون هذه الأسواق هم الذين كانوا يريدون التجارة، فأما من لم يكن له تجارة ولا بيع فإنه يخرج من أهله متى أراد، وكان من لا يريد التجارة من أهل مكة يخرج من مكة يوم التروية، وظلت الحال على ذلك حتى جاء الإسلام وخلع على الحج من الجلال ما تضاءل إزاءه جلال هذا الفرض في الجاهلية، هنالك ظن قوم أن الحج والتجارة لا يجتمعان، وفكروا في إبطال الأسواق؛ فنزل قوله - تعالى:
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين . فأباحت هذه الآية التجارة قبل الحج وأثناءه وبعده، وبذلك بقيت الأسواق، وبقيت عكاظ حتى نهبها الثوار الذين خرجوا من مكة في الثلث الأول للقرن الثاني من الهجرة.
وقل من أهل مكة من لم يكن يخرج إلى عكاظ، فأهل مكة ذوو تجارة، بل كانت التجارة حياتهم؛ ذلك بأن أم القرى وما حولها كانت ولا زالت بواد غير ذي زرع، وقد كانت في تلك العصور طريق التجارة بين الشام واليمن، كما كانت قوافلها تخرج في رحلتي الشتاء والصيف إلى الجنوب والشمال، تنقل تجارة الشرق إلى الغرب وتجارة الغرب إلى الشرق، ولعل أهلها كانوا أشد حرصا على شهود الأسواق والخروج إلى عرفة للتجارة منهم للحج، فالبيت الحرام في بلدهم، والطواف به ميسور لهم كلما أرادوا، وأصنام الجاهلية التي كان الناس يحجون إليها كانت داخل البيت وفيما حوله، ولم تكن بعرفة ولا بعكاظ ومجنة وذي المجاز، فالتجارة إذن هي التي كانت تستنفر أهل مكة للخروج إلى حيث يجدونها ليبادلوا قبائل العرب المختلفة ما شاءوا من العروض مقابل ما جاءوا به من الشام ومن اليمن، ولعل خروج أهل مكة زرافات إلى عرفة حين الحج حتى يومنا هذا إنما يرجع إلى ما اعتاده أسلافهم في تلك الأيام الخوالي، وإن يكن الدافع الذي يحفز أهل مكة لهذا الخروج اليوم لا يتصل بالتجارة كما كان يتصل في ذلك العهد.
وقد تعود المؤرخون إذ يذكرون عكاظا أن يقولوا: إن الشعراء كانوا ينتهزون فرصة انعقادها فيعرضون حوليات من نخب قصائدهم على الناقدين في احتفال عظيم تشهده الجماهير، وبذلك يذيع ما يقره الناقدون وأولو الحكم من هذ الشعر في أنحاء شبه الجزيرة جميعا، ويتغنى به العرب في كل ناد، وأن الخطباء كانوا يجعلون منها مثابة لعرض آرائهم وتعاليمهم، وصحيح أن الشعراء كانوا ينشدون في عكاظ، وأن الخطباء كانوا يتحدثون إلى الناس فيها، لكن ذلك لم يكن سببه أن هؤلاء وأولئك كانوا يتخذون من عكاظ حفلا أدبيا ومجتمعا خاصا بألوان البلاغة في الشعر والخطابة، بل كان يرجع إلى طبيعة الحياة في بلاد العرب، وإلى أن عكاظا كانت تضم من قبائلها من لا يجتمعون طيلة العام إلا أيام الحج، وقد كانت عكاظ تجمعهم لتبادل التجارة ابتغاء المنافع، وهذا التبادل في التجارة وهذا التنافس في ابتغاء المنافع وما كان يقع أثناء ذلك وبسببه من خصومات تتصل بعض الأحيان أعواما متتالية هو الذي كان يدعو الشعراء لينشدوا والخطباء ليقولوا.
أما أن هؤلاء الشعراء كانوا يجيئون ليعرضوا شعرهم للنقد، وأن هؤلاء الخطباء كانوا يتبارون بلاغة ليستعلي بعضهم على بعض في البيان، وأن ذلك كان يقع في الجاهلية أيام كانت لهجات العرب لا يزال بينها من التباين ما لم يزله استعلاء لغة قريش إلا بعد أن أنزل الله القرآن بها، فتجاوز في التصور يدعو إليه ما جبل الناس عليه من توهم الحياة في كل العصور والأمكنة على صورة حياتهم في البيئة المحيطة بهم، وقد ألف العالم العربي إبان ازدهار الإمبراطورية الإسلامية أن يرى الشعراء يتنافسون يبتغون الزلفى إلى ملك أو أمير، وأن يرى النقاد يتناولون الشعر في عهد قائليه أو بعد وفاتهم بالنقد والإبانة عن محاسنه ومساويه في الفصاحة والبلاغة، فذهبوا يصورون عكاظا وما كان يجري فيها هذه الصورة الذهنية التي ألفوا، والتي تختلف وما تثبته أنباء الحياة العربية في العهد الجاهلي اختلافا عظيما.
ناپیژندل شوی مخ