وكان مما أيد الثائرين على العقل في فكرنا المعاصر، النظرية الفرويدية في التحليل النفسي وغيرها من النظريات النفسية التي ردت نشاط الإنسان إلى مصادر خبيثة غير ظاهرة، كالغرائز أو اللاشعور أو ما إلى ذلك؟
فكم أديبا في القصة والمسرحية وكم شاعرا وكم مصورا جعل مادته الأساسية محاولة إخراج هذه الكوامن الدفينة في حياة الإنسان لتظهر في الآثار الأدبية والفنية ظهورا يلقي الضوء على حقيقة الإنسان!
وأحسب أن من الخصائص التي قد يتميز بها هذا العصر - نتيجة للعلم بكل جوانبه: الطبيعي والاجتماعي والنفسي، أن أخذت تتسرب فكرة النسبية عند النظر إلى القيم وإلى الثقافات، فإذا كانت العلوم الطبيعية والإنسانية على السواء لم تعد تأخذ بالقطعية الجازمة التي كان يظن أنها تصف نتائج التفكير العلمي، وإذا كانت التحليلات النفسية قد مايزت بين الأفراد على نحو لا تستطيع معه أن تقول: إن «أحلام» هذا أفضل من «أحلام» ذلك، فماذا ينتج عن هذه النسبية في نظرة الإنسان إلا أن تتعادل الثقافات المختلفة في قيمها مهما تنوعت أشكالها، فأصبح الفن الإفريقي كالفن الأوروبي أو الآسيوي من حيث الرتبة والقيمة، ولم يعد حرج أن يستوحي فن هنا فنا هناك، فازداد اعتزاز الأمم المختلفة بتراثها وبتقاليدها وبفنونها الشعبية وبلغتها وثيابها وطعامها وشرابها.
وهذه نتيجة تبدو - في ظاهرها - عجيبة، لا تتفق مع أمارات التوحيد التي تدل على أن العالم - في نفس الوقت الذي تؤكد كل قومية شخصيتها المميزة - يسير نحو أن يكون مجتمعا دوليا واحدا.
وإني لأتخيل راكب الصاروخ من صواريخ الفضاء التي تدور حول الأرض في بضع دقائق أتخيله، وقد نظر إلى الأرض كلها فرآها من بعيد كالبندقة الصغيرة السابحة في فضاء الكون الفسيح، يسأل نفسه متعجبا: أتكون هذه البندقة الصغيرة حاملة على ظهرها كل هذا التمزق والخلاف بين شعوبها، ألا إن اليوم آت عما قريب، حين يتآخى المتخاصمون على صالح مشترك.
والحق أن هنالك من الدلائل ما ينبئ بهذا، فهو عصر يسوده العلم، ومن شأن العلم أن يوحد الناس على منهاج واحد ونتائج واحدة، بل يوحدهم على أدوات للعيش واحدة تصدرها المصانع بالأعداد الكبيرة، لتنتشر هنا وهناك، فلا يكون فرق بين حضر وريف، وكذلك هو عصر المؤتمرات الدولية التي تلتقي فيها الشعوب جميعا على آراء ينتهون إليها في معظم الحالات ليتم تنفيذها في كل أرجاء الأرض برضى من الجميع، وهنالك جمعية الأمم المتحدة التي إن كانت قد أخفقت في مواضع فقد نجحت في مواضع أخرى، وبخاصة في ميادين الثقافة والتعاون الاقتصادي والاجتماعي وما إلى ذلك.
لكن العجب الظاهر سرعان ما يزول عنا حين ندرك أنه لا يرجى للعالم إخاء صحيح إلا على أساس الشخصيات المستقلة لأممه، بل لأفراده، وعندئذ تختفي هذه الظواهر التي لاكتها ألسنة المعقبين على خصائص العصر من قلق وتمزق وشك وسخط.
الماركسية منهجا
ليس يعبر عن روح العصر - من بين مذاهب الفلسفة القائمة - إلا تلك المذاهب التي تنتهي إلى وجهة من النظر تجعل العالم في حركة دائبة لا تعرف السكون، وفي تغير دائم وتطور مطرد، لا يستقر معهما على حال واحدة لحظتين، فالعالم اليوم ليس هو العالم الذي كان بالأمس، ولن يكون هو العالم الذي سيصبح غدا، فالليل يعقبه النهار، والشتاء يتلوه الربيع، والوليد ينمو، والبذرة تنبت، ومحال عليك أن ترى في هذا الكون الرحيب كائنا واحدا اعتزل وحده وأفلت من مجرى هذا التيار الدافق: تيار التغير والتطور والسير والحركة والنماء.
نعم إن العين المجردة قد تنظر إلى هذه الشجرة أو ذلك البناء، فيخيل إليها أنها بإزاء شيء ثابت قد انغرس في مكانه لا يتحول عنه يوما بعد يوم، لكن الرائي لا ينخدع بهذا الثبات الظاهر؛ لأنه يعلم أن الشجرة كانت بذرة ثم نمت على مر الزمن جذورا وجذوعا وفروعا وأوراقا وثمارا، ويعلم أن البناء لم يكن قائما ذات يوم ولن يكون قائما بعد حين، فالتغير الذي قد لا يتراءى للعين إلا بعد أن يتراكم، لا يقفز من العدم إلى الوجود بوثبة واحدة، بل هو في تدرج بطيء لا ينفك لحظة واحدة عن الحدوث، وإن تعذرت على العين المجردة رؤيته لحظة لحظة.
ناپیژندل شوی مخ