وإذا كانت الإرادة هي نفسها الفعل، فقد أصبح واضحا أن قولك «إرادة الفعل» لا يزيد شيئا عن قولك «الإرادة» لأن هذه لا تكون بغير فعل، كما لا يكون الوالد والدا بغير ولد: ولا يكون اليمين بغير اليسار، ولا يكون البعيد بغير القريب، ولا الأعلى بغير الأدنى ... كل هذه متضايقات لا يتم المعنى لأحدها بغير أن تضاف إلى شقها الآخر.
ونخطو خطوة أخرى، فنقول إنه إذا كان لا إرادة بغير فعل، فكذلك لا فعل بدون تغيير، وسواء كان التغيير الحادث ضئيلا أو جسيما فهو تغيير، إنك لا تفعل الفعل في خلاء، بل تفعل الفعل - أي فعل كان - لتحرك به شيئا فيتغير مكانه ليتغير أداؤه وتتغير صلاته بالأشياء الأخرى: كان الحجر على الجبل فأصبح هناك جزءا من الجدار، وكان الماء هنا في النهر فأصبح هناك في أنابيب المنازل، كان المداد هنا في الزجاجة، فأصبح في جوف القلم، ثم انتثر على الورق كتابة يقرؤها قارئ إذا وقع عليها بصره، وكانت الأرض يبابا فزرعت، وكان الحديد خامة من خامات الأرض فصنع قضبانا ... كل إرادة فعل وكل فعل حركة وتغيير.
فقولنا «إرادة التغيير» لا يضيف شيئا إلى شيء، بل هو قول يوضح معنى الإرادة بإبراز عنصر من عناصرها، وكان يكفي أن تقول عن الإنسان إنه إنسان حي لنفهم من ذلك أنه ذو وحدة عضوية هادفة، وأنه في سيره نحو أهدافه كائن عاقل مريد، وأنه في إرادته فاعل، وأنه في فعله متحرك ومحرك، ومتغير ومغير.
وتسألني: هل تريد أن الإرادة هذه هي حالها دائما وتلك هي خصائصها، فلا فرق بين حالة تكون فيها مقيدة وحالة أخرى تكون فيها حرة؟ وأجيبك فأقول إنني أخشى أن يوقعنا وضع المشكلة على هذه الصورة التقليدية القديمة في لجاجة لفظية لا تنفع أحدا ولا تشفع لأحد، فلكم بحث الباحثون وكتب الكاتبون جوابا عن السؤال القائل: هل الإرادة حرة أو مقيدة؟ ومتى تكون الإرادة حرة ومتى تكون مقيدة؟ ولذلك فإنني أفضل النظر إلى المشكلة من زاوية الأهداف وتحقيقها لعلها تكون نظرة أجدى؛ فنقول إن الأصل في الإنسان - كما أسلفنا لك القول - هو أن يكون كائنا عضويا هادفا بجميعه في فعل وحركة، لكن قد ينحرف الأمر إلى أحد احتمالين آخرين ، أولهما أن ينشط الكائن العضوي لغير ما هدف، فيخبط في الأرض خبط الأعمى، وعندئذ لا إرادة لأنه لا هدف، وعندئذ أيضا ينتفي سؤالنا هل الإرادة حرة أو مقيدة لأنها ليست هناك، والاحتمال الثاني هو أن ينشط الكائن العضوي لهدف استهدفه سواه، وهنا أيضا لا إرادة؛ لأن الإرادة هنا هي إرادة من استهدف الهدف، فلا إرادة للعبد الرقيق حين ينفذ لمولاه ما يريد، ولا إرادة للبلد المستعمر (بفتح الميم) إذا أملى عليه المستعمر (بكسر الميم) ما يفعله وما لا يفعله، فلا إرادة إلا في حالة واحدة، هي أن يكون النشاط مرهونا بهدف وضعه الناشط لنفسه، أو وافق عليه، وفي هذه الحالة الطبيعية السوية يمتنع السؤال هل الإرادة عندئذ حرة أو مقيدة، وإذا فليس التعارض الحقيقي هو بين الحرية والقيد، بل التعارض الحقيقي هو في أن يكون ثمة إرادة أو لا يكون، وهي لا تكون إذا لم يكن هدف أو إذا كان هنالك الهدف لكنه هدف يستهدفه غير القائم بالعمل.
على أن نقطة هنا لا بد من توضيحها، وهي حين لا يكون الهدف مقصورا على فرد واحد، إذ قد تشترك جماعة بأسرها في هدف معين، تسعى إليه بكل أفرادها، حتى إن تنوعت الوسائل التي يتخذها كل فرد على حدة، فها هنا تكون الإرادة مكفولة كما لو كانت إرادة فرد واحد، وهذا يذكرنا بالإشكال الذي يتعرض له مؤرخو الفلسفة بالنسبة إلى مذهب إسبينوزا الذي يجعل الوجود كلا واحدا يسير نفسه بنفسه، بحيث لا يملك أي جزء على حدة إلا أن يسير مع الكل في مساره المرسوم، فهنا ينشأ السؤال: أيكون الإنسان في هذا المجموع المتكامل حرا أم يكون مجبرا على السير مع سواه في الخط المرسوم؟ والجواب الأصوب هو أنه حر ما دام جزءا في الكل الذي رسم الطريق لنفسه بنفسه ... وهكذا نقول بالنسبة للفرد الواحد في مجتمع وضع لنفسه بنفسه خطة للعمل تحقيقا لأهداف محددة، فما دام الهدف قائما، وما دام الهدف من وضعه هو - مشتركا فيه مع غيره - فهو في سعيه نحو الهدف كائن مريد.
إن من أهم ما نريد أن نقرره هنا - تمهيدا للنتائج التي سنستخرجها في الفقرة التالية من المقال، هو العلاقة بين الفرد والمجموع، تلك العلاقة التي تضمن للفرد حريته، وفي الوقت نفسه تضمن مشاركته للمجموع في رسم الأهداف، فما أكثر ما قاله القائلون بوجود التعارض بين أن يكون الفرد منخرطا في جهد جماعي يساير فيه مواطنيه، وأن يكون - مع ذلك - حرا في التماس الطريق الذي يراه ملائما له، والأمثلة كثيرة جدا على ألا تعارض بين الجانبين، إذا نحن فرقنا بين شيئين: الإطار الذي يحدد قواعد السير، ثم خطوات السير في حدود ذلك الإطار، فهنالك قواعد مشتركة بين لاعبي الكرة أو لاعبي الشطرنج، لا يسمح لأحد اللاعبين بالخروج عليها، ومع ذلك فلكل لاعب كامل الحرية في أن يحرك الكرة أو قطعة الشطرنج حيث أراد في حدود قواعد اللعب - خذ مثلا آخر: قواعد اللغة يلتزم بها كل كاتب بها أو قارئ لها، فليس من حق الكاتب العربي أن ينصب فاعلا أو أن يرفع مفعولا به، لكن هل يعني هذا حرمان الكاتب من حريته فيما يكتبه وفق تلك القواعد؟ إن لكل كاتب موضوعاته التي يعرضها، وأسلوبه الذي يعبر به عن نفسه، على أن يتم ذلك كله في حدود المبادئ المشتركة ... لا، بل إن كل عبارة يخطها الكاتب إنما يلتزم فيها بمبادئ كثيرة، دون أن يحد ذلك من حريته في اختيار مادتها وطريقة صياغتها، ففضلا عن قواعد اللغة نحوا وصرفا، هنالك مبادئ المنطق يلتزمها بحكم طبيعته نفسها، فهو لا يجيز لنفسه - مثلا - أن يقول إنه إذا أراد مسافر قطع المسافة التي طولها مائتا كيلو متر في ساعتين، فيكفيه قطار يسير بسرعة عشرين كيلومترا في الساعة، أو أن يقول إنه إذا أرادت البلاد تنفيذ خطة صناعية تكلفها مائتي مليون من الجنيهات، فيكفيها أن تجمع من المواطنين خمسين مليونا - الكاتب حر فيما يقول، ما دام قوله ملتزما لطائفة من مبادئ اللغة والفكر، وهكذا قل في المواطن الفرد بالنسبة للمبادئ والأهداف التي وضعها المجموع ، وكان هو أحد أفراد ذلك المجموع، فهو حر في طريقة سيره وأسلوب حياته، على أن تجيء مناشطه ملتزمة للمبادئ المقررة.
فرغنا حتى الآن من فكرتين: الأولى هي أن الإرادة هي نفسها العمل الذي يحقق الهدف المنشود، وأنه حيث لا عمل فلا إرادة، وأن كل عمل إنما هو تغيير لأوضاع الأشياء، وإذن فنحن إذا قررنا لشخص أو لجماعة «إرادة» فقد قررنا بالتالي أن هذا الشخص أو هذه الجماعة تعمل عملا تغير به من أوضاع الحياة قليلا أو كثيرا، والثانية هي أنه لا تعارض بين حرية الفرد الواحد في طريقة حياته، وبين أن يكون ملتزما بالأهداف والمبادئ والقواعد التي أقامها المجتمع الذي هو أحد أفراده.
وبقي لنا أن نستنتج النتائج من هذه المقدمات: إنه إذا كانت كل إرادة هي إرادة تغيير، إذن فليس السؤال هو: هل الإرادة التي أطلقت للشعب يوم انتصاره هي إرادة تغيير أو إرادة شيء آخر، بل السؤال هو: ما دامت الإرادة التي أطلقت للشعب يوم انتصاره هي بالضرورة إرادة عمل وتغيير (لأن هذا هو معنى الإرادة كما قدمنا) فما الذي نغيره؟ وما الهدف الذي من أجل تحقيقه نغير ما نغيره؟
إن القائمة لتطول بنا ألف ألف فرسخ، إذا نحن أخذنا نعد التفصيلات الجزئية التي يراد تغييرها، كأن نحصر الأفراد الذين يراد لهم أن يصحوا بعد مرض، وأن يعلموا بعد جهل، وأن يطعموا بعد جوع، وأن يكتسوا بعد عري، وكأن نحصر الطرق التي يراد لها أن ترصف، والحشرات التي لا بد لها أن تباد، والأرض التي لا بد أن تزرع والمصانع التي لا بد أن تقام ... تلك تفصيلات جزئية تعد بألوف الألوف، لكنها تندرج كلها تحت مبادئ محدودة العدد، ثم تندرج هذه المبادئ بدورها تحت ما يسمى بالقيم أو المعايير التي عليها يقاس ما نريده وما لا نريده لحياتنا الجديدة، فإذا أنت غيرت ما لدى القوم من معايير وقيم، تغير لهم بالتالي وجه الحياة بأسرها.
ولا تكون إرادة التغيير قد نالت من حياتنا قيد أنملة إذا نحن لم نوحد في أذهاننا توحيدا تاما بين العام والخاص، فتلك من أولى القيم التي لا بد من بثها في النفوس وترسيخها في الأذهان، فنحن بما ورثناه من تقليد اجتماعي أحرص ما نكون على الملك الخاص، وأشد ما نكون إهمالا للملك العام، فالفرق في أنظارنا بعيد بين العناية الواجبة بالابن والعناية الواجبة بالمواطن البعيد، بين العناية بتنظيف الدار من داخل والعناية بتنظيف الطريق، الفرق في أنظارنا بعيد بين المال نملكه والمال تملكه الدولة للجميع، بين العيادة الخاصة يديرها الطبيب الذي يستغلها والمستشفى العام يديره الطبيب نفسه ولكنه يديره باسم الدولة، الفرق في أنظارنا بعيد بين معنى «أنا» و«نحن» وبين «هو» و«هم»، فما زال الذي يشغلنا هو هذه الأنا والنحن اللتان لا تعنيان أكثر من الأسرة وحدودها، وأما هو وهم اللتان تمتدان لتشملا أبناء الوطن جميعا فما تزالان في أوهامنا تدلان على ما يشبه الأشباح التي لايؤذيها التجويع والتعذيب.
ناپیژندل شوی مخ