فلكي نعيش جدا ونحيا ملء حياتنا الإيجابية، يجب أن نتصدى للدنيا وننبري لتذليل عقباتها ونجعل الهجوم وسيلة الدفاع في المال والذهن، فلا ندخر كالفرنسي بل نستغل ونؤثل كالإنجليزي، وإذا كان في الاستغلال مخاطرة فلنقبلها راضين بما لها من عوض في الزيادة والنماء والارتقاء.
فالهجوم والتصدي والمغامرة هي صفات الحياة العالية، تلك الحياة التي ترضى بالارتقاء فترتقي وتتطور ولو كان في ارتقائها فناؤها.
الفصل السادس والأربعون
في شرف الهزيمة
قد يكون من الهزائم للأمم والأفراد ما هو أمجد وأشرف من الانتصارات، فهذه فرنسا مثلا بعد أن أعلنت الثورة الكبرى وأذاعت مبادئها على العالم عادت فانهزمت، واضطرت إلى الإقرار بأن مبادئها ليست حقة فكانت هزيمتها هذه شريفة؛ لأن كل إنسان يقرأ تاريخ تلك الثورة يعرف أنها ليست ثورة فرنسا فقط بل ثورة الإنسان كائنا ما كان؛ لأنها أعلنت حقوقه ورفعت شأنه وباتت مصباحا تستضيء به كل أمة في العالم، حتى إن طغيان نابليون، ثم اتحاد الأمم عليها ورد الملوكية إلى عرشها، كل هذا لم يقتل مبادئ الثورة بل بقيت حية أمام هذه الهزائم وعادت في النهاية إلى الانتصار.
وأقرب من هذه الثورة تلك الهزائم التي نزلت بالأمة الصينية في حرب جائرة أعلنتها عليها الإمبراطورية البريطانية كي تقسرها على شراء الأفيون بعد أن كانت الصين قد منعت زراعته والاتجار به وتدخينه، فإن هذه الإمبراطورية حاربت الصينيين وقهرتهم وأجبرتهم على شراء الأفيون، فكانت الصين مجيدة في هزيمتها، شريفة في مذلتها أمام هذا العدو المنتصر الذي طغا عليها بحروبه واضطرها إلى شراء السم لأبنائها.
ومن الهزائم المجيدة أيضا تلك الهزيمة التي نزلت بنا في سنة 1882 حين وقف عرابي بجيشه يدافع عن الدستور وعن الوطن بينما الخديوي قد انضم للأعداء، فكان عرابي في هزيمته أسمى من الخديوي في انتصاره، وذلك لأن الأول كان يدافع عن الحق فانهزم، بينما كان الثاني يدافع عن الباطل فانتصر. الحق مهزوما أمجد وأشرف من الباطل منصورا.
ومن الهزائم الشريفة هزيمة الدكتور ولسون حين خرج مجاهدا في سبيل السلام يدعو الأمم إلى إلقاء سلاحها وإنشاء عصبة الأمم كي تكون المحكمة العليا للعالم كله، وقد انهزم ولسون أمام الحلفاء ولكن هزيمته كان أشرف من انتصارهم إذ كان هو يعمل للصراحة والحب والوفاء وكانوا هم يعملون للمواربة والكراهية والغدر.
وكما أن مبادئ الثورة الفرنسية قد عادت فانتصرت، وكما أننا الآن ندافع عن الدستور الذي انتزعه عرابي من الخديوي ونرفع المبادئ التي كان يرفعها، كذلك ستنتصر مبادئ الدكتور ولسون على دهاء الساسة الذين خدعوه، وإذا لم يكن هذا الانتصار عاجلا فهو آجل.
وعبرتنا نحن الأفراد العاديين من هذه الأمثلة ألا نبالي بالهزيمة إذا كانت في سبيل الحق، وأن نؤثرها على الانتصار في الباطل، وأن نطمئن إلى هذه الهزيمة لأنها هي في الواقع انتصار أو تهيؤ للانتصار، وذلك لأن الحق لا يهزم إلا إلى وقت وميعاد إذا آن فيهما أوانه ظهر على الباطل وأزهقه.
ناپیژندل شوی مخ