وقد أثلجت صدري هذه المقالة التي تدعونا إلى هجران الأدب السخيف والنزوع إلى العلم، وقلبت الجريدة التي بها هذا المقال فرأيت مقالا آخر عن المستر فورد خلاصته أنه ينوي أن يجدد مصانعه بحيث تخرج في اليوم، أجل في اليوم الواحد، 12000 أتومبيل، فكانت هذه المقالة الثانية برهان صدق المقالة الأولى وأكبر دليل على أن النزعة العلمية هي التي تعمل للرقي بينما النزعة الأدبية كما هي في بلادنا لا تعمل إلا للانحطاط.
منذ سنة أو أكثر مات رجل إنجليزي يدعى الأستاذ بري، ألف كتابا غريبا يبحث عن فكرة الرقي والتقدم، كيف نشأت ومتى نشأت؟ فإنك إذا استقريت أحوال الأمم القديمة لا تجد لهذه الفكرة أثرا إذ هي حديثة جدا قد لا يزيد عمرها عن مائتي سنة، والذي يبدو للباحث أن هذه الفكرة الشريفة التي تجعل الإنسان ينزع إلى تحسين نفسه وبلدته ووطنه لم تنشأ إلا من المخترعات العلمية، فإن الإنسان ابن العادة، فإذا هو رأى التبديل والتحسين في الآلات نزع به ذلك إلى التفكير في التبديل والتحسين في المؤسسات العمرانية، فالعلم هو أساس فكرة التقدم والإصلاح، أما الأدب فما كان له هذا الفضل قط، ولهذا السبب أصبح أدباء أوروبا علما، بل منهم من لا تعرف هل تسميه بالعلم أو الأدب، مثل مايترلنك مثلا، فإنه يؤلف كتابا عن «الأرضة» وكيف تعيش وبعد ذلك يؤلف درامة عن المسيح.
الفصل السادس والثلاثون
تربية الكبار
ليس الصبيان وحدهم ولا الشبان وحدهم هم الذين يحتاجون إلى تربية، والفرق بين الاثنين أن الصبي أو الشاب يحتاج إلى معلم يعلمه ويرشده أما الكبير فيجب أن يربي نفسه، وأذكر بهذه المناسبة رجلا قد ربى نفسه ونجح في تربيتها، أعني به المستر ولز الإنجليزي، فقد كتب يصف أحد أبطاله وأظنه كان يصف فيه نفسه بقوله: «كان في عقله من التفزز ما يكسبه حرارة ودقة، وكانت له مع ذلك ابتكارات ونزعة سخيفة، وكان يحب الكلام والكتابة، وكان يتكلم عن كل شيء وكان يفكر في كل شيء، ولم يكن في وسعه أن يمتنع عن تشمم أثرك وهو يتبعك، فكان هو يتشمم أثر الحقائق، وكثيرون من الناس يعتقدون أنه مفيد منير، وقليل منهم لا يطيقونه وكان حافلا بالأفكار عن السلالات البشرية والإمبراطوريات والنظام الاجتماعي، والمؤسسات السياسية، والحدائق والأتومبيلات ومستقبل الهند والصين، وفلسفة الجمال وأميركا وتربية النوع البشري على وجه العموم.»
وولز رجل فوق الستين ولكنه دائب الدرس والتفكير والتأليف، وقد تطور في الثلاثين سنة الماضية، وأعتقد أنه سيتطور في المستقبل، وتطوره هذا يدل على أنه يربي نفسه وهو كبير بل وهو شيخ، وإذا نحن تتبعنا بعض مؤلفاته منذ شبابه إلى شيخوخته علمنا مقدار تطوره ومقدار عنايته بنفسه في تربية نفسه.
فقد بدأ حياته بكتاب عن تشريح الأرنب وبعض الحيوانات؛ لأنه هو نفسه تربى تربية علمية، ثم عمد إلى الأدب فكتب بعض القصص والمقالات ومنها مقالة هزأ فيها بالاشتراكية والقائلين بها، ثم بعد ذلك بسنوات عاد فألف أحسن كتاب في الاشتراكية يدعو إليها ويوضح أنظمتها، ويقول بضرورتها مع أنه هو إنجليزي، ووضع تاريخا ضخما للعالم باعتباره أمة واحدة.
ولاح أمامه درس جديد وهو النفسلوجية الحديثة التي ابتدعها فرود فدرسها، وألف قصة بل قصصا عنها، حتى آخر النظريات التاريخية الحديثة القائلة بأن مصر هي أصل حضارة العالم أخذ يدرسها، وينصح لقراء قصصه بقراءة مؤلفات إليوت سمث مبتدع هذه النظرية.
فهذا كاتب يتطور مع الزمن ويدرس كل شيء من الأتومبيلات إلى مستقبل الصين، ومن تنظيم الحدائق إلى فلسفة الجمال ولا يبالي بأن يغير رأيه ودرسه متى لمح قبسا من الحقيقة.
فهذا كاتب يتطور مع الزمن ويدرس كل شيء من الأتومبيلات إلى مستقبل الصين، ومن تنظيم الحدائق إلى فلسفة الجمال ولا يبالي بأن يغير رأيه ودرسه متى لمح قبسا من الحقيقة.
ناپیژندل شوی مخ