2
إنه لا مناص لكتاب عصرنا من المشاركة في روح عصرهم إيجابا أو سلبا، وفي العصر مشكلات تعددت ألوانها، لكنها على اختلافها تجتمع كلها في جذور أصيلة قليلة، لعل أهمها هو قلق الإنسان على مقومات إنسانيته، وأيها أولى بالتحقيق إذا لم يكن في حدود المستطاع تحقيقها جميعا؛ أتكون حرية الفرد أولى حتى إن أدت هذه الحرية إلى تفاوت الأفراد، أم تكون مساواة الأفراد أولى حتى إن أدت هذه المساواة إلى انتقاص من حرية الفرد؟ أيجعل الإنسان ولاءه للوطن أسبق من ولائه للإنسانية جمعاء، أم يكون ولاؤه للإنسانية أولا وللوطن ثانيا؟ هذه وغيرها مشكلات انتهت بالعالم إلى حالة من التوتر لا يكاد يفلت منه إنسان واحد، وسؤالنا الآن هو: ماذا يستطيع الكتاب أداءه إزاء هذا التوتر؟
ونحن نستمد جوابنا عن هذا السؤال من واقع التاريخ الأدبي، فلسنا نطالب الكاتب بما ليس يتفق مع طبيعة فنه كما نستشهد عليها بشواهد التاريخ، وفي رأينا أن هذه الشواهد كلها تدل على أن الأديب الحق - سواء كان من أدباء الخيال المبدع، أو من أصحاب الدعوات الفكرية - إنما يقوم برسالته الإنسانية حين يجعل «الإنسان» - لا هذا الفرد أو ذاك، ولا هذه الأمة أو تلك - بل يجعل الإنسان هدفه الأسمى، ينظر إليه خلال الموقف الجزئي الذي يتخذه موضوعا مباشرا؛ فالأديب حر في اختيار موضوعه واختيار طريقة أدائه، وهو حر، بل هو مضطر - إذا كان من أدباء الخيال - إلى تلوين أثره الأدبي بلونه الذاتي الخاص الذي يستمده من روح قومه وجو إقليمه كما يستمده من ذات نفسه، ولكنه في الوقت نفسه يلمس موضوعه تلك اللمسة الإنسانية العامة التي تجاوز به حدود الإقليم الخاص والظروف الخاصة، بحيث يثير الاهتمام في كل إنسان مهما يكن مكانه وزمانه.
أديب الخيال، كالشاعر وكاتب القصة والمسرحية، لا مندوحة له بطبيعة الحال عن اغتراف مادته من خبراته الخاصة التي يستمدها من نفسه ومن محيطه، ولكنه لا يرقى إلى مراتب الخلود إذا هو لم ينفذ خلال الخبرة الجزئية المقيدة بظروف زمانه ومكانه إلى حيث الحقيقة التي تجاوز تلك الحدود؛ فهذا هومر قد صور آخيل في فتوته وفحولته وفي غيرته ونخوته، صوره في نسيج من تفصيلات محلية إقليمية لها زمنها الخاص ومكانها الخاص وأساطيرها الخاصة، لكن هل يمكن لقارئ في أي بلد وفي أي أن يطالع هذه الصورة فتصرفه ظروفها الخاصة تلك عما تنطوي عليه من جوهر الإنسان حين يكون على نضارة الفطرة وتلقائية السلوك؟ كذلك صور شيكسبير هاملت في نسيج من تفصيلات حياته الفردية الخاصة، فما كل إنسان يقتل عمه أباه ليظفر بأمه فيثأر لأبيه من عمه ومن أمه، ما كل إنسان يحيط به ما قد أحاط بهاملت، ولكن هل يمكن لقارئ في أي بلد وفي أي عصر أن تصرفه هذه الظروف الخاصة عن رؤية الإنسان متمثلا في هاملت، حين يستيقظ في الإنسان ضميره فيهم بالعمل كما يملي عليه الضمير، لكنه مقيد بثقافته التي تظهر له من الأمر وجهين لا وجها واحدا، فيأخذه التردد؟ وصور دستويفسكي إليوشا في محيط من الظروف الخاصة، فله أب غير آباء الناس، وإخوة غير إخوتهم، وحياة غير حيواتهم، لكن هل يمكن لقارئ مهما يكن زمانه ومكانه أن يطالع صورته دون أن يلمس فيها جوهر الإنسان حين يطهر قلبه وتنفذ بصيرته ويعف لسانه؟
في هذا الجانب الإنساني من أدب الخيال يلتقي الناس بعضهم ببعض التقاء إنسان بإنسان، فليكن الكاتب قوميا إقليميا كيف شاء، بل ليكن فردا مستقلا بذاته عن قومه وعن إقليمه كيف شاء، وليختر من موضوعاته ومن أشخاصه ما شاء ومن شاء، ولكنه في هذا كله سينفذ إلى قلوب الناس من كل قوم وفي كل إقليم. إن اختلاف الأوطان عندئذ، واختلاف الثقافات والمذاهب وطرائق العيش، سينمحي كله ويزول؛ لتبرز صورة «الإنسان» جوهرا خالصا من لفائفه التي كانت تخفيه عن أعين تنظر إلى التباين الظاهر فتظنه تباينا أصيلا.
من ذا يستطيع أن يفرق في حنان الأمومة بين أم هنا وأم هناك مهما يكن لون البشرة التي تكسو ذلك الحنان؟ من ذا يستطيع أن يفرق في الطفولة اللاهية بين طفل هنا وطفل هناك، أو أن يفرق في جهاد الكادحين بين كادح هنا وكادح هناك، وأن يفرق في قلوب العابدين بين عابد هنا وعابد هناك، وفي لهفة المحبين بين عاشق هنا وعاشق هناك؟ كلا، إنه «الإنسان» هنا وهناك، وبقلم الكاتب الموهوب يبرز جوهر الإنسان، فيلتقي الناس على صفحاته إخوانا من كل لون وجنس؛ فهذا طاغور شاعر الهند يغني بوجدان هندي فيطرب لغنائه أهل الأرض جميعا، لا فرق بين حاكم ومحكوم، وهذا سومرست موم يكتب عن المتصوف الهندي فيجعل منه قديسا يمس القديس في كل إنسان، وتكتب هاريت ستو
Hariette Stowe
وهي أمريكية بيضاء عن زنجي، فتصوره في طيبة قلبه تصويرا يثير حب الإنسان للإنسان؛ فقلوب الناس ونفوسهم لا تتلون بلون البشرة التي تكسوها؛ فليس على الأديب إلا أن يمس بقلمه صميم الإنسان، وهو بذلك وحده كفيل أن يؤاخي بين الناس أجمعين.
3
وإذا كان أديب الخيال يؤاخي بين الناس بما يعرضه عليهم من صور فردية جزئية ينظرون إليها وخلالها، فإذا هي أمام أعينهم عدسات يرون بها حقيقة الإنسان وقد تبلورت وتجمعت بعد أن فرقها الأفراد في مختلف البيئات أشتاتا، إذا كان هذا هو ما يصنعه أديب الخيال، فأديب الفكر يحقق الغاية نفسها، ولكن بطريق آخر؛ فها هنا ينعكس الوضع، فبدل أن ينظر إلى الكل الواحد خلال الجزء، يبدأ بالكل يحلله ويشرحه ويصفه ويصوره لينتقل بعد ذلك إلى المواقف الجزئية والأشخاص الفردية فيطبق عليها ما قد انتهى إليه؛ فلئن كان أديب الخيال يبدأ بالعاطفة لينتهي إلى طمأنينة العقل، فأديب الفكر يبدأ بالعقل لينتهي إلى رضا العاطفة، أو إن شئت فقل إن أديب الخيال يتخذ من الجمال وسيلة، ومن الحق غاية، وأما أديب الفكر فيتخذ من الحق وسيلة، ومن الجمال غاية؛ فالطريق بينهما واحدة يقطعها الأول من اليمين إلى اليسار، ويقطعها الثاني من اليسار إلى اليمين.
ناپیژندل شوی مخ