الأدب في عصر العلم والصناعة
في نوفمبر من سنة 1961م انعقدت ندوة أدبية دولية في نيودلهي عاصمة الهند للاحتفال بالذكرى المئوية لشاعر الهند رابندرانات طاغور، حضرتها وفود من مختلف أقطار العالم، وقد حضرها من البلاد العربية الدكتور يحيى الخشاب مندوبا عن جامعة الدول العربية، والدكتورة سهير القلماوي مندوبة عن جامعة القاهرة، وكاتب هذه السطور مبعوثا من المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية، وقد ألقى هؤلاء كلماتهم بمناسبة الذكرى المحتفل بها، ولكن الهيئة المشرفة على هذا الاحتفال - وهي المجلس الهندي للعلاقات الثقافية - رأت أن تخصص يوما لمناقشة موضوع عام، هو «الأدب في حياتنا الراهنة»، وبصفة خاصة فيما له علاقة من هذه الحياة بالعلم والصناعة، ووجهت الدعوة قبل موعد الاحتفال بمدة كافية إلى نفر قليل من أعضاء الندوة؛ ليدلي كل برأيه في هذا الموضوع، بحيث توضع الآراء المطروحة موضع المناقشة، وهؤلاء هم: أولدس هكسلي، وكاتب هذه السطور، لتكون كلمتاهما موضوع أولى حلقات المناقشة، ولويس أونترماير الأديب الأمريكي، وإيفانوف الكاتب الروسي، ونوساك من ألمانيا الغربية، ونارايان الكاتب، وجوشي الشاعر، وكلاهما من الهند.
استهل هكسلي كلمته بسؤاله: كيف يؤثر الأدب في الحياة؟ وكيف تؤثر الحياة في الأدب؟ هذان سؤالان إذا أردنا الإجابة عنهما كان لا بد لنا بادئ ذي بدء من تحديد معنى كلمة «أدب» في هذا السياق، ومن تحديد من نعنيهم من الأحياء حين نقول إن الأدب يؤثر في حياتهم، ثم مضى هكسلي يجيب عن سؤاليه قائلا إن مجرى التاريخ يتأثر بعوامل كثيرة، لعل أهمها ضروب التقنيات المستخدمة في الصناعة القائمة، والنظم الاقتصادية السائدة، وأوجه النشاط التي يبديها أصحاب النفوذ والسلطان في توجيه المجتمع، والأفكار التي يعرضها المفكرون فيما يكتبون أو يذيعون، وهي المقصودة بكلمة «أدب».
غير أن تعريف الأدب بهذا المعنى الواسع الذي يشمل كافة الأفكار التي أتيح لها أن تنشر مكتوبة أو منطوقة، يجعل الأدب أوسع نطاقا مما قد يراد له في سياق هذا الحديث؛ فليس من شك أن ما كتبه أمثال لوك وهيجل وماركس ولينين قد أثر في مجرى التاريخ؛ ومن ثم كان له أثره في حياة الملايين من البشر، ومع ذلك فمن الإسراف أن نطلق على أمثال هذه الكتابات الفلسفية والسياسية الاسم نفسه الذي نطلقه على كتابات من ضرب آخر، كالتي عبر بها شيكسبير - مثلا - عن مشاعره وأفكاره فيما هو متصل بالإنسان وحياته، أو التي عبر بها وردزورث عن مشاعره وأفكاره فيما هو متصل بالطبيعة، ويجمل بنا أن نقصر حديثنا على هذا الضرب الثاني وحده دون الأول. وليس يعني ذلك أن كتب الأدب التي نعنيها لا تشتمل - فيما تشتمل عليه - على تعبير بليغ عن أفكار فلسفية وسياسية من شأنها أن تشكل مجرى التاريخ؛ ومن ثم فمن شأنها أن تؤثر في حياة الأفراد بما تغيره من البيئة الاجتماعية التي يعيشون فيها، فما فتئ الشعراء وكتاب المسرحية والقصة والمقالة يستخدمون ملكاتهم الأدبية في عرض أفكار كهذه من خلال نتاجهم الأدبي، فيصيبون النجاح أحيانا ويخطئونه أحيانا؛ فالأفكار السياسية التي ساقها روسو في كتابته الأدبية - مثلا - قد تركت أثرها في مجرى التاريخ، بينما لم تترك الأفكار السياسية التي قصد إليها دانتي مثل هذا الأثر. وخذ مثلا آخر من الأدب الحديث: ه. ج. ولز، الذي ربما كان أكثر كتاب عصره شيوعا، وأوسعهم ترجمة إلى اللغات الأخرى، وأوفاهم نصيبا من إعجاب الناس في شتى أقطار الأرض في عصره؛ إذ قرأ كتبه ملايين القراء، ومع ذلك فلم تترك دعوته إلى مجتمع دولي أثرا محسوسا في مجرى التاريخ إبان هذا القرن العشرين، وحسبنا أن نذكر أنه هو القرن الذي اشتدت فيه النزعة القومية، لكن ولز إن فاته النجاح في بث أفكار سياسية بعينها عن طريق أدبه، فقد نجح نجاحا عظيما في قصصه القائمة على غرابة الخيال، وهي القصص التي حاول فيها أن يؤكد النتائج الممكنة التي تترتب على الكشوف العلمية الحديثة.
من هذا يتضح أن الموهبة الأدبية لا تطرد دائما مع عمق الأثر الذي يتركه النتاج الأدبي الذي يتركه صاحب تلك الموهبة في تغيير وجهات النظر عند الناس؛ أي إن عبقرية الخلق الأدبي وحدها لا تكفل إحداث الأثر الفعلي في حياة الناس، حتى حين يكون قوام ذلك الخلق الأدبي أفكارا مما من شأنه أن يحدث التغيير في أنظار الناس. لا، بل إن عبقرية الأديب قد تكون هي نفسها العامل الذي يصد الناس عن قبول فكرته الجديدة؛ إذ إن قبول الفكرة وشيوعها لا يتوقفان على جمال عبارتها، ولا على رقة المشاعر المتجسدة فيها، ولا على لطافتها أو طرافتها أو عمقها، بقدر ما يتوقف القبول والشيوع على تكرار الفكرة تكرارا يصوغها في عبارة مبهمة عامة، فيسهل حفظها ودورانها على الألسن، برغم خلوها من التفصيلات التي تجعلها ذات معنى محدد؛ ولهذا كثيرا ما نجد الفكرة العبقرية الأصلية محكوما عليها بالعزلة، حتي يتناولها شارحون يفقدونها لبها وجوهرها في سبيل صياغتها صياغة يسهل قبولها، عندئذ فقط يقبل عليها الناس، ولكن بعد أن تصير قشرة جوفاء.
إن الكلمة اللاتينية
Vates
تعني «شاعرا»، كما تعني «نبيا» أو صاحب دعوة؛ مما قد يوحي بأن قول الشعر - أو الأدب بصفة عامة - والدعوة إلى مثل عليا معينة، شيء واحد، لكننا إن وجدنا في تاريخ الأدب طائفة من أعظم الشعراء الذين كانوا بشعرهم دعاة لمثل عليا، هداة للخير والفضيلة، وعداة للشر والرذيلة، إلا أن الخلق الشعري في أساسه مختلف كل الاختلاف عن الدعوة إلى أفكار بعينها؛ لأن مثل هذه الدعوة إنما تنشد ما «ينبغي أن يكون» في مجال الأخلاق أو العقيدة أو الفكر، أما الشعر - والأدب عامة - فلا يهمه «ما ينبغي أن يكون»، بل يهتم بما هو «كائن» إذا كان هذا «الكائن» الفعلي محوطا بالألغاز والسر. هم الأدب هو ما يفعله الناس في مسالكهم من خير ومن شر؛ فمن عجب أن الإنسان في وسعه أن يعلو إلى أسمى مدارج الفضيلة، كما في وسعه أيضا أن يسفل إلى أحط مهاوي الرذيلة. هم الأدب هو هؤلاء الناس أنفسهم كما يسلكون فعلا، وكما يشعرون فعلا، وكما يفكرون فعلا؛ فمن الناس من يلمع ذكاء متوقدا مشرقا، ومنهم من انطفأت فيه جذوة الفكر انطفاء غشاهم بعتمة من الغباء المظلم؛ منهم من يسمو حتى ليصل إلى منزلة الشهود عند المتصوفة، ومنهم من يهبط حتى يكاد يندرج في مقولة واحدة مع الحيوان الأعجم؛ فلا غرابة إن كانت هذه هي الطبيعة الإنسانية بمتناقضاتها أن يلح كثيرون من أصحاب الدعوة الروحية على أن يعرف الإنسان نفسه، ومهمة الأدب الحقيقية هي أن يعاون الإنسان على هذه المعرفة؛ على معرفة ذاته على حقيقتها.
مهمة الأدب الأولى هي الكشف عن حقيقة الإنسان كما هي واقعة. نعم، إن الشاعر أو الأديب قد يتعرض هنا وهناك لدعوات في سبيل الله، أو في سبيل المجتمع، أو في سبيل العلم، وما إلى ذلك، ولكنه إذا لم يكن قبل كل شيء رائدا يرود جوانب النفس البشرية كما تتمثل في ذاته هو، وإذا لم يكن إلى جانب ذلك صاحب موهبة يستطيع بها أن ينقل إلى الآخرين لمحات بصيرته التي نفذ بها إلى خبيئة ذاته، حيث شهد خبراته النفسية في أعماقها التي تضطرب بالمتناقضات، أقول إنه إذا لم يتوافر فيه هذا فقد يعد خطيبا فصيح البيان، أو إماما مصلحا، لكنه لن يكون شاعرا ولا أديبا.
إن الأثر الأدبي الرفيع هو دائما بمثابة تقرير يبين به صاحبه حقيقة واقعة في خلجات نفسه؛ حقيقة من ذاك النوع الذي وإن يكن مبهما في طبيعته، إلا أنه ما يكاد يعلن على الناس حتى يدركوا صدقه، بل إنهم عندئذ ليعجبون كيف تأخر الكشف عنه؛ فالأدب الرفيع كله تعبير عن مشاعر أولئك الأفذاذ الذين ارتادوا جوانب ذواتهم من داخل ومن الأغوار، فكشفوا عن المستور منها، وطالعوا حقيقة ما يفكرون فيه وما يهتزون له، فألموا بذلك بالمصادر الأولى التي عنها ينبثق سلوكهم الظاهر، ثم يجيء القارئون لهذا الأدب، فتتحرك فيهم الرغبة أن يرتادوا أنفسهم بدورهم كما ارتاد الكاتب جوانب نفسه، وعندئذ يجد القارئ أن ما يكمن في حنايا نفسه هو بعينه ما قد سبق للأديب أن يتصيده وأن يعلنه، معبرا بذلك عن مشاعره إزاء الناس من حوله، وإزاء النظم الاجتماعية القائمة، وإزاء الثقافة السائدة.
ناپیژندل شوی مخ