واستقبلنا في ركن من أركان ردهة المائدة الصغيرة صندوقا مربعا يوحي إلى الناظر باسمه المتفق عليه، وهو التابوت! سماه باسم التابوت المقدس كل من رآه؛ لأنه يشبه في منظره وموقعه توابيت القديسين في أركان المزارات، ولم أنكر التسمية؛ لأن التابوت فيه تقديس وفيه تخليد، وماذا على الموسيقى التي اشتمل عليها التابوت أن تتصف بالتقديس والتخليد؟
كان هذا التابوت مشتملا على حاك قديم وبضع مئات من القوالب الموسيقية، أو الغنائية المختارة من مسموعات الشرق والغرب، ومنها توقيعات على بعض الآلات السماعية العجيبة، التي تختلف بسلمها الموسيقي عن السلم الشائع في معظم البلدان، كتوقيعات أهل الصين.
ومزح صاحبي مزحة ليست بالأولى من نوعها؛ لأنها كذلك من وحي المقام، فقال: إن هؤلاء العازفين في موضعهم هنا؛ لأنهم يعزفون لك على الطعام، فلا يفوتك حظ الخواقين والشاهات في قصور البذخ والسلطان!
وأجبته كما كنت أجيب هذه المزحة في كل حين: إن الإنسان يا أخانا لا يأكل أكلتين في لحظة واحدة: أكلة روح وأكلة معدة، وما من كرامة الموسيقى الرفيعة أن تشتغل بشيء آخر وأنت تستمع إليها، فإنها شاغل كاف لمن يستوعبها ويتقصاها، ويتأمل في معانيها وإشاراتها، وليست تلك الموسيقى التي تتحدث وتأكل وتتشاغل عنها، وأنت تسمعها إلا بمنزلة الجارية المستعبدة من السيدة المطاعة؛ لأنها تسليك وتلهيك ولا تخاطب روحك وخيالك ووجدانك، فتستدعيك إلى الإصغاء والمبالاة.
لا يا أخانا وكرامة! إنني أختار لهذا التابوت أحيانا ساعات كساعات التهجد في جنح الظلام، فإن كان الوقت شتاء فأكثر ما أرجع إلى هذا التابوت في ساعات اليقظة الباكرة بعد هدأة النوم الأولى. ويطول الليل وتثقل المطالعة في الهزيع الثاني أو الهزيع الثالث من ليل الشتاء المديد، إن قبلت هذا التقسيم والترتيب للهزع الليلية، فإذا بي معرضا عن رفوف الكتب متوجها إلى هذا التابوت، لا علالة من الأرق ولا بديلا من الورق، ولكن تلبية لنجوى العبقريات في وقت لا يسمع فيه غيرها، ولا يحوي فيه السكون السابغ على الكون بغير وصية الإصغاء، كأي من مدلج في الطريق تتسرب إليه الأصداء غير مفسرة ولا متصلة، فيخالها من همسات الأرواح والأشباح في غفلة الأنس وناشئة الصباح.
وتعمدت العبث والدعابة، فقلت لصاحبي: إننا لن نسمعها في أيام إذا سمعنا أناشيدها أنشودة أنشودة، فليتنا نسمعها دفعة واحدة في وقت واحد! ترى كيف تتلقاها المسامع التي تطرب لها متفرقة؟ أليس من حقها أن تسر بالكثير أضعاف سرورها بالقليل؟
قال صاحبي: ما أحسب أن أحسن الأنغام إذا قيلت معا تفضل أسوأ الأصوات وأنكرها في الآذان.
قلت: ألا نستخلص من ذلك عبرة من عبر الحياة العظمى؟ أليس الذين يتعجلون النغم، فيخيل إليهم أن ازدحامها خير من تفرقها وأجمع لمحاسنها؛ يخطئون كما يخطئ الذين يتعجلون النغم، فيحسبون أن مائة لحن في وقت واحد خير من اللحن الفرد وأوفى؟
شيء واحد في وقت واحد، وجميع الأشياء في جميع الأوقات، وهذا هو نظام العيش وقوام الجمال في كل نفع وكل سرور.
قال صاحبي: وهل تسمعها في الصيف كما تسمعها في الشتاء؟
ناپیژندل شوی مخ