وكان صاحبي قد انتقل كما قال، فيما بين الخنصر والبنصر إلى عالم السماء: عالم البحث في الله، وسر الوجود، وأصل الحياة وما قبل الحياة وما بعد الحياة.
وكان على ديدن الكثيرين يرى أن هذا البحث فيما وراء الطبيعة من الوقت الضائع أو فضول القول، فسألني وهو يتحرج قليلا؛ لأنه يعلم أنني لا أستضيع وقتا أنفقه في بحث هذه الأمور: ما فائدة هذا كله وهو غموض في غموض وفروض من وراء فروض؟ ألا يمكن أن يعيش الإنسان على هذه الأرض، وهو في غنى عن هذه الفلسفة التي يسمونها سر الوجود ؟
وأردت ألا أتخلف عنه في جرأة الرأي، فقلت: بل هي آخر شيء يستغني عنه الإنسان، وما أنت مستطيع أن تطل من هذه النافذة، أو تبدأ عملك في الصباح ما لم تكن لك «فلسفة وجود» على نحو من الأنحاء.
قل لي: ماذا تستبيح وماذا تحرم وأنت تنظر من هذه النافذة؟ أتستبيح أن تملأ عينيك من شيء غيرك، كما قال الأديب الحجازي؟ وإذا استبحته فلماذا تستبيحه؟ وإذا حرمته فلماذا تحرمه؟ وما حدود المتاع بالنظر فيما تراه؟ أله حدود أم ليست له حدود؟
وأنت تذهب إلى عملك كل يوم في الصباح، فلماذا تعمل أو لماذا تهمل عملك؟ أعليك واجب؟ أمناط هذا الواجب مصلحتك أم مصلحة الأمة؟ ومشيئة الخالق أم مشيئة المخلوق؟ وإن آمنت بهذه المشيئة أو بتلك فلماذا آمنت؟ وإن لم تؤمن بهذه أو بتلك فلماذا كفرت؟ وإن لم تكفر في شيء من ذلك، فهل أنت إذن مثل حسن للآخرين!
مرحلة الحياة يا صاحبي كجميع المراحل التي نقطعها من مكان إلى مكان، لا تركب القطار حتى تحصل على التذكرة، ولا تحصل على التذكرة حتى تعرف الغاية التي تسير إليها، غاية ما هنالك من فرق بين راكبين أن أحدهما يقرأ التذكرة والثاني لا يقرأها، أو أن أحدهما يؤدي ثمنها من ماله والثاني يؤدى له الثمن من مال غيره، وإن أبيت المجازات فأحد الراكبين في مرحلة الحياة يبحث عن غايتها بنفسه، والآخر توصف له غايتها بلسان غيره، لا بد يا صاحبي من هذه الفلسفة التي تريد أن تلقي بها في اليم وأنت على الشاطئ، وثق يا صاحبي أنها آخر شيء يلقيه راكب السفينة حين تلعب به الأعاصير في البحار اللجية، بل هي الشيء الذي لا يتركه ولو ترك السفينة أو تركته إلى الأعماق، ألم تسمع قولهم في الأمثال: «إنهم كالنواتية لا يذكرون الله إلا ساعة الغرق؟» فاعلم يا صاحبي أن هذا الذكر هو فلسفة الحياة التي تبقى مع راكب السفينة بعد كل بضاعة يستغني عنها، وبعد السفينة نفسها إذا حان حينها!
قال صاحبي: وهل وصلت قط من فلسفة حياتك إلى شيء؟
قلت: نعم، إن الله موجود.
قال: باسم الفلسفة تتكلم أو باسم الدين؟
قلت: باسم الفلسفة أتكلم الآن، والفلسفة تعلمنا أن العدم معدوم فالموجود موجود، موجود بلا أول ولا آخر؛ لأنك لا تستطيع أن تقول: كان العدم قبله أو يكون العدم بعده! وموجود بلا نقص؛ لأن النقص يعتري الوجود من جانب عدم ولا عدم هناك، موجود بلا بداية ولا نهاية ولا نقص ولا قصور ... والوجود الكامل الأمثل هو الله.
ناپیژندل شوی مخ