قال لي العالم الحكيم الدكتور يعقوب صروف منشئ «المقتطف» مرة: إنه شهد الصبية يلعبون كرة اليد، فرأى منهم من يعدو ليلقف الكرة، ومن يعدو ليجذب الأول من قفاه ويرده إلى الوراء، فلا هو يلقف الكرة ولا يطيب له أن يلقفها غيره! وهاتان الطائفتان من الخلق موجودتان في كل ميدان من ميادين الجد، ولا تقصران على هذا الميدان الصغير من ميادين اللعب، فإن رأيت فتى في مقتبل عمره يهوي الشيوعية، غير مخدوع في وعودها، فهو بعض هؤلاء الذين لا يلقفون الكرة ولا يسرهم أن يلقفها السابقون.
وأود يا صاحبي أن نعطي هذه البواعث النفسية حقها في تفسير إقبال الناس على المذاهب أو إعراضهم عنها؛ لأن تفسيرهما بدرجات الفهم أو بأحوال المعيشة لن يغنينا عن تفسيرهما بتلك البواعث النفسية في وجهتها الكبرى، ويزعم الماركسيون أن الأحوال الاقتصادية هي كل شيء في تفسير حركات التاريخ ومذاهب الدعاة، ولكنهم لا يذكرون حركة واحدة من تلك الحركات المعروفة، إلا كان الأمر فيها موقوفا على مسألة شعور قبل كل شيء وبعد كل شيء.
وخذ لذلك مثلا هجرة الناس إلى القارة الأمريكية بعد كشفها فرارا من الفاقة، أو من الحجر على ضمائر المعتقدين، فلماذا هاجر أناس وبقي أناس لو لم يكن فرق الشعور هو الفرق الأكبر بين الباقين وبين المهاجرين؟ ولماذا رضيت طائفة بالذل والحجر، فسكنت واستكانت، ولم ترض طائفة أخرى فودعت الديار، واقتحمت مجاهل البحار ومخاطر الأسفار؟ وما تعليل «المادة» لهذا الفارق في الشعور والمهاجرون ينتمون إلى كل طبقة وحالة الضيق شاملة لهؤلاء وهؤلاء؟ إن آفة هذا المذهب البغيض أنه لا يرى أكرم العلتين للحادث الواحد إلا حاد عنها إلى أحقر العلتين، وأنه لو وضع لعالم من الحيوان لما احتاج إلى تضييق ولا تقصير، ولا إعادة تفصيل أو تحرير؛ لأنه لا يفهم من الإنسان إلا جانب الحيوان.
وكان صاحبي من أولئك الذين يعلقون أحكامهم على الخطأ حتى يتبين لهم وجه الصواب فيه، وكأنه لا يعرف أن هذا الوجه دميم إلا إذا عرف أن ذلك الوجه وسيم، ولا يصدق أن هذا العلاج قاتل إلا إذا صدق أن ذلك الدواء محقق الشفاء. فشك طويلا بعد ما سمع من مساوئ الشيوعية والنازية ثم عاد يسأل: ولكن ما العمل؟ إن شيئا لا بد أن يعمل ولا أحسبك إلا قد خرجت من هذا التيه المتراكب بزاوية تنفذ إلى طريق، ولو لم يفض بنا الطريق إلى الغاية المأمولة إلا بعد حين، فالشيوعية حسد والنازية غرور، فأين يكون سواء الأخلاق وصلاح الأمور؟
قلت: وهبنا لم نعرف طريق الصلاح ، أفيمنعنا هذا أن نحذر طريق الفساد؟ على أنني أعتقد يا صاحبي أن الطريق الوحيد الذي فتح لنا بين هذه المتاهات، هو طريق كتبت عليه كلمة واحدة لا تتبدل في مشكلة من المشكلات: وهي كلمة «التعاون».
فلا خلاص للعالم بعد اليوم إلا بهذا الترياق الوحيد، حيثما أعضلت عليه مشكلة في السياسة أو في المعيشة، أو في الحكومة أو في الأخلاق.
التعاون بين الأمم كبارها وصغارها، والتعاون بين الطبقات غنيها وفقيرها، والتعاون بين السلطات، والتعاون بين الأفراد ولا اختيار للناس في تعاطي هذا «الترياق»؛ لأنهم مدفوعون إليه مقسورون عليه، بعد نزاع بين الأمم، ونزاع بين الطبقات، ونزاع بين الحكماء والمحكومين.
قال: وماذا يجدي التعاون في مشكلات الفقر والغنى؟
قلت: يجدي ما ليس يجديه حل آخر من الحلول التي جرت قبل الآن أو ستجري بعد الآن.
خذوا الضرائب من الأثرياء وزيدوا الأجور للعاملين، فإذا بكم قد حققتم غرض الشيوعية ولم تمسخوا الطبيعة الإنسانية؛ لأن المالك الذي يؤخذ منه معظم ربحه ضريبة للدولة إنما هو موظف في ملكها لا يتقاضى من الربح أكبر من أجر الوكيل المؤتمن على مصلحة غيره، وكأنما ملكت الدولة مرافق البلاد كلها، ولم تحرم المالكين ذلك الحافز «الفردي» الذي يحث المرء على العمل لغيره، كأنه يعمل لنفسه ولأبنائه، وما من شيء يستنهض الهمم للتجويد والافتنان، كما تستنهضها هذه الحوافز التي تخلو الحياة من كل طعم إذا خلت منها.
ناپیژندل شوی مخ