په خالي وختونو کې
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
ژانرونه
وإذا رواياته عن هذين المائتين من السنين لا تدل على أكثر من أن العرب كانوا أهل بأس ونجدة وحياة معنوية فياضة. أما الحضارة ومظاهرها من علوم وفنون، أما هذا الفيض الذي يربو على حاجات الإنسانية ثم يندمج فيها ليخلفه فيض جديد يندمج ليجيء بعده فيض غيره، ثم ما يكون من ذلك من التقدم في سبيل الكمال، فلا يحدثنا تاريخ العرب قبل الإسلام عن شيء منه. بل لا يزال شبه الجزيرة في تاريخه من بعد الإسلام إلى يومنا خلوا من هذا؛ لأنه لا يزال كما كان خاضعا لسلطان الحياة الاقتصادية التي لا تجود بما يقيم الركن المادي من أركان الحضارة.
على أن الناحيتين، المعنوية والأدبية، كانتا قويتين في النفس العربية قبل الإسلام، ولا تزالان قويتين فيها إلى حد عظيم. وهذه القوة المعنوية أثر من آثار قسوة الحياة الاقتصادية العربية، أو هي تعويض عن هذه القسوة تجود به الطبيعة وتقيمه في الكائن الحي فطرة الاحتفاظ بالحياة. فلو أن الحرمان المادي قابله حرمان معنوي لما استطاع هذا البدوي المقيم على شظف العيش أن يجد في نفسه من الهمة ما يتغلب به على شدائد الدهر ونوائب الزمن. بل لو أن نفسه كان فيها هذا الاستسلام الوادع المطمئن إلى ما تجود به الطبيعة من عيش ناعم لقضى نحبه جوعا وظمأ. والقليل الذي بقي لنا من أدب العرب قبل الإسلام وفي صدره الأول يفيض بمعاني هذه الهمة وآثار تلك القوة التي كانت دائمة التحفز لمجالدة الطبيعة ومغالبتها. وماذا تسمي هذا الازدراء للتكسب بالشعر إلا أنه سمو عن المسألة واحتقار لكل من تحدثه نفسه بأن يعيش عالة على غيره وأن يكسب حياته من غير جده ونشاطه؟ ثم ماذا تسمي هذا الترفع من جانب الرؤساء عن قول الشعر - حتى كان امرؤ القيس عار أبيه - إلا أن هؤلاء الرؤساء كانوا يرون واجبهم في الدفاع عن عشائرهم والذود عن حياضها والحكم بين أهلها يقضي عليهم بالترفع عن القول إلى العمل، خصوصا إذا أوجب هذا القول ما يوجبه الشعر العربي من غزل لا يتفق ورياساتاهم الرفيعة. على أن الشعر الذي قاله الرؤساء وغير الرؤساء كان يفيض حماسة ونجدة، وينبئ عن رفعة في النفس تبعدها عن الدنايا وتدفعها إلى أسمى الغايات.
هذا الفقر في الناحية الاقتصادية والغنى في الناحية المعنوية، وهذه العزلة الدائمة التجوال، كل ذلك جعل من العربي رجلا خياليا لا يعرف من دقائق حياة الوجود إلا قليلا. ثم مع هذا يرد كل ما في الوجود إلى شخصه فيمتلئ بذلك زهوا وافتخارا. وأنت فيما ترجع إليه من أشعار العرب قبل الإسلام لا تجد إلا حديث الشاعر عن نفسه. فحبه وغزواته وكرمه ومجده ونسبه. وأنت تجد ذلك كله مذكورا بزهو أي زهو، وإعجاب أي إعجاب. فأما ما كان من مظاهر الحضارة في الشعر؛ أما هذا الوصف لحياة الجماعات ونشاطها وغزوات الدول الأجنبية إياها وفخارها بالنصر، وألمها للهزيمة مما تجده في إلياذة هوميروس، وأما هذه الفلسفة الدينية أو الوثنية التي تعبر عن إيمان الجماعة وآمالها في الحياة، وفيما بعد الحياة مما تجده في آثار المصريين واليونان والرومان، وأما هذه الفلسفة التي تعبر عن نظام الجماعة التي فرغت من سعيها لحياتها، وجلست تفكر في أمسها ويومها وفي الحياة والموت وما بعدهما، وأما هذه القصص التي يتلهى بها أهل المدن في مسارحهم وحين قصفهم ولهوهم؛ أما هذا وما إليه منآأثار الفكر والفن ومن ثمرات الحضارة، فلا تكاد تحسه في الشعر العربي قبل الإسلام. وكيف تطلبه إلى قوم حياتهم الاقتصادية ما رأيت ولهوهم هو هذا الغزل بالنساء والإشادة بالحب وذكره؟ والحب كما تعلم ليس إلا حديث بقاء النوع، كما أن الكفاح ليس إلا حديث الاحتفاظ بالحياة.
تلك كانت حياة العرب قبل الإسلام. أعدتهم الطبيعة لحياة العزلة والجهاد فظلوا قبائل لحمتها النسب وسعيها حماية الجار عربيا كان أو غير عربي. وأنت لن تجد في شعر الجاهلية معنى أسمى من هذه الحماية وبذل النفس في سبيلها واستعداء العشيرة على من يتعدى عليها. كما أنك لن تجد عند الجاهليين من دوافع الطبيعة غير الغزل جاوز عندهم ما تدفع إليه فطرة استبقاء النوع وتحسينه إلى أن صار فنا. يفكر الأعرابي في محبوبته على أنها أمل يتخيله وصورة يصل في وصفها إلى ما لم يصل إليه سواه. وذلك أن الشاعر العربي القديم كان يقاسي من ضرورات الحياة ما يقاسي، ثم لا يجد من صور الترف والنعمة سوى المرأة. فكان لذلك يسبغ عليها كل ما في عقله وقلبه وكل ما في بصره وبصيرته من الصور والمعاني.
أما ما سوى هذه المظاهر من صور الحياة فلم يذكر عنه التاريخ شيئا. وإذا كان بعض المؤرخين قد وجد في بلاد اليمن وفي بعض سواحل العرب شيئا من آثار الحضارة؛ فذلك لأن تلك السواحل كانت في حياتها الاقتصادية أحسن حظا من داخلية البلاد المحاطة بالصحراء، لكن حظها لم يكن من الوفرة بحيث ينيل ما وراءها من المتاع المادي الذي يقيم الحضارة في شبه الجزيرة أو في قسم منها ذي قوام خاص؛ لذلك بقيت حياتها البدوية أساس كيانها، وبقي لها من هذه الحياة كل ما سبق وصفه من الآثار.
ولما جاء الإسلام كانت شبه الجزيرة على حالها القديم منقسمة شيعا وقبائل كل منها ذات كيان مستقل بحاله من نسب وتقاليد ولهجة عربية، تختلف قليلا أو كثيرا عن لهجة قريش. لكنها كانت جميعا ذات حياة معنوية وأدبية ممتازة في القوة. وكانت هذه الحياة المعنوية غير متفقة مع ما كان سائدا بينها من عقائد أورثها إياها سلفها، وجنى عليها ما كان يرد إليها مع أبنائها حماة التجارة من عقائد القبائل والشعوب المجاورة؛ لذلك وجدت كلمة الإسلام في بساطتها وقوتها وحقيقتها مرعى خصبا في نفوس ترجو أن تطمئن، فلما اجتمعت كلمة العرب في شبه الجزيرة حول الإسلام، وتناصرت قبائلهم المتقاتلة، وأصبحوا أمة جمعت كل قوى العربي المعنوية، اتجهوا إلى الفتح؛ ليقيموا الدين ولو كره الكافرون.
أوغل العرب المسلمون إلى الشام والعراق والفرس ومصر، فألفوها بلادا ذات حضارة كاملة الأداة والمظهر، ووجدوا فيها ثمرات الاجتماع من فلسفة وعلم وفن. وتلك شئون ليس لشبه الجزيرة بها عهد. ولكنهم ألفوا الجانب المعنوي من هذه الحياة الحضرية ضعيفا متهدما نخره الترف وزعزعت أسسه المظالم. وهذا الضعف المعنوي، هذا الضعف في إيمان النفس بذاتها، هو الذي فتح أمام النفوس العربية - التي ازدادت بإيمانها الجديد قوة وحماسة - أسوار هذه الأمم. فبدأ العرب أول فتحهم هذه البلاد ينشرون الدين فيها ويقيمون العدل بين أهلها، ويعفون عما استقر من الحضارة بين ربوعها. وهذا يفسر لنا ما يقال من إحراق بعض دور الكتب، وعدم العناية بأي مظهر من مظاهر الفن. لكن فترة الغزو الأولى لم تلبث أن تمر ولم يلبث العرب أن اطمأنوا إلى معاني النعمة التي أفاضتها عليهم خيرات البلاد المفتوحة؛ حتى بدأوا يترددون في وجوب التعفف عنها. ولعل أول مظاهر هذا التردد صراحة انتقال حكومة الدولة من مكة والمدينة إلى دمشق. فليس شك في أن من الأسباب التي أدت إلى هذا الانتقال ما رأى العرب من فقر شبه الحزيرة وإقفارها، ومن استحالة قيام الحضارة فيها. وبانتقال الحكومة إلى دمشق وأخذ الخليفة من مظاهر الترف بنصيب بدأ هؤلاء الذين قضوا حياتهم إلى ذلك الحين في شظف من العيش ينالون من آثار النعمة ما يرفه عنهم مضض الجهاد، وما يزيدهم للغزو حبا وفيه إمعانا.
وإذ كانت الناحيتان الأدبية والمعنوية ناميتين عنده كما أسلفنا، وكان ذا حظ من الذكاء عظيم، فقد استطاع أن يتمثل حضارة البلاد التي مر بها. بل استطاع أكثر من ذلك أن يهضم الحضارات المختلفة، وأن يسيغها، وأن يجعل منها حضارة واحدة هي الحضارة الإسلامية. فهو قد وجد على شواطئ دجلة والفرات، ووجد في بلاد فارس صورا من الحضارة ماثلة في مظاهر الفكر والفن على غير الصورة التي مثلت بها الحضارة الرومانية على ضفاف النيل، وعلى غير ما وجد على شواطئ البردا بدمشق. مع ذلك جمع هذه المظاهر كلها ومزجها في فكره مزجا، وأبرز منها للحضارة الإسلامية صورة جعلت ترقى رويدا رويدا وتزداد باتساع الفتح رقيا، وتتمثل صورا ومعاني للحضارة جديدة، حتى كانت حضارة بغداد وحضارة قرطبة غاية ما وصل إليه التقدم الإنساني في تلك العصور. ولما تدهورت دولة العرب وقام الترك على حكم المسلمين وقفت هذه الحضارة الإسلامية التي ساغها العقل العربي، فلم تتقدم وظلت واقفة إلى زمن قريب من عصرنا الحاضر، ثم هبت عليها نسمات من الحياة تبعث في النفوس اليوم أكبر الأمل أن يعود لهذه الحضارة مجدها وسلطانها.
خرج العرب المسلمون إذن من شبه الجزيرة ولا حضارة لهم، ثم كانوا أداة اتصال بين الحضارات المختلفة القائمة في الفرس وفي مصر وفي الأندلس فتمثلوها، ثم خلقوا من مظاهرها جميعا ... وفنية كبرى. ولقد قام أهل البلاد التي فتحها الإسلام بهذه المجهودات فألفوا بها بين حضارتهم السابقة وحضارات الأمم التي اشتركت معها الحضارة ما اقتضاه قيام كل حضارة سبقتها من مجهودات عقلية، حضارة متحدة هي الحضارة الإسلامية. وقد اقتضى قيام هذه بعد فتح العرب إياها في نعمة الإسلام. أما العرب الفاتحون أنفسهم فقليل منهم من اشترك في هذه المجهودات الفكرية والفنية وإن كانت جميعا قد تمت بأمرهم وتحت إشرافهم. ولعل أكبر ما يقنعك بهذا أن الأدب العربي، الذي كان باقيا للعرب أنفسهم لم يشاركهم فيه من أهل الأمم المحكومة إلا قليل، قد بقي بطابعه العربي القديم مع قليل من التحول زمنا طويلا. ثم هو على كل حال لم يتأثر في غير الأندلس بمظاهر الحضارة الجديدة من وصف للمدائن والقصور وما تحتويه. وهو لم يتأثر ولا في الأندلس تأثرا ظاهرا بالأبحاث التاريخية والفلسفية والعلمية التي كان يعالجها أهل تلك الأمم، والتي بلغت في رفعة الحضارة الإسلامية مقاما محمودا، وكانت ذات أثر مباشر في تطور المدنية الغربية وفي بلوغها مكانتها الحاضرة.
وإنه لعجب حقا أن يدل الأدب العربي على أن العرب الذين تمثلوا حضارات الأمم التي حكموها ظلوا محتفظين بسحنتهم العربية، حتى لكأنما أنفوا أن يستعيروا من أدب غيرهم ما لم يكن في أدبهم قبل الإسلام من قوالب وصور. أم أنها لم تكن أنفة، بل كان الطبع العربي السريع التنقل والتجوال هو الذي احتبسهم في تلك القوالب القديمة؟ أرأيت شاعرا عربيا قحا عدا في أوزانه أوزان العرب الجاهليين؟ وهل رأيت كتاب العرب اختلفوا في نقل الروايات عمن سبقوهم؟ ثم هل جدد عربي في الأدب نوعا من الأنواع لم يكن معروفا من قبل؟ وهل وضع أحد القصة الطويلة أو الرواية التمثيلية، أو ما إلى ذلك مما عرفه أدب اليونان والرومان وما كان معروفا في مصر وفي غير مصر من البلاد التي خضعت للفتح العربي؟ أم أن الذين جددوا في اللغة العربية لم يكونوا عربا أعرابا، وأن الذين كتبوا كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة وقصة عنتر، وما إلى هذا من الأنواع الجديدة إنما كانوا من أهل البلاد التي دخلها العرب واتصل ما بينهم وبين أهلها برابطة الإسلام، فكان تعاون على إعلاء شأن الدين والحضارة التي لازمته.
ناپیژندل شوی مخ