په خالي وختونو کې
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
ژانرونه
قامت عائشة من مضجعها وبها أثر الكرى، وليس عليها سوى قميص النوم، فذهبت إلى غرفة أبيها فإذا به في مرقده وعيناه مطبقتان.
فلما كانت إلى جانبه أمسكت بيده ففتح عينيه وحدق بها ثم بالنافذة ثم قال: عمي صباحا يا عائشة. - نعمت يا أبت وسعدت. كيف قضيت ليلتك؟ - قضيتها على ما أحب. قضيتها مع الخيالات الذاهبة وكأنها تناديني إليها. وكم مر بي طيف أمك، وكلما أردت أن أمسك بها انفلتت من يدي ووقفت بعيدا ثم قالت: «تعال إلينا فدارنا أحسن من داركم.» ولكأنني أحس في نفسي شوقا للحاق بها في عالم لم يبق عندي بعد هذه الليلة خيال شك في وجوده ... وأين باترا؟ - إنها لا تزال نائمة مهدودة بعد إذ أضناها بالأمس همك. - ألا تفتحين هذه النافذة لعل نسيم الصباح يبعث لنا ما ينعش الروح ويجدد القوة الذاهبة. - أخشى أن يكون النسيم باردا فلا يكون أثره عليك على ما تحب ... - ذريني من أثره ومما أحب وما لا أحب. لي بقية ضئيلة في هذه الحياة. أفلا أمتع نفسي منها ولو بنسيم الصباح. افتحي. افتحي.
فتحت عائشة النافذة ووقفت لحظة تحدق في الخارج بالنخيل وبالعشب وبرمال الصحراء بعدهما. وتموج النسيم هادئا يدخل الغرفة وينعش جسمها، ويبعث إلى وجناتها وردها. وأرسل قرص الشمس - وهو لا يزال عند الأفق - أشعته على قميصها ألصقه النسيم بها فأظهر خطوط جسمها. وأنعش النور والنسيم خالدا فجلس وحدق بابنته معجبا بتمثال الشباب أمامه. ولفظ اسمها بصوت خافت فتلفتت متمهلة، ونظرت إليه بعيونها الواسعة الدعجاء. فلما ملأ العجوز منها عينه التي لا تشبع من النظر لكل جميل قال: ألا لا حياة بعد ذهاب الشباب. - وكيف تجد النسيم يا والدي؟
لم يجب العجوز، فذهبت ابنته إليه وجلست إلى جانبه، وجعلت تجاذبه الحديث. وفيما هما كذلك دخلت باترا وعليها قميص لونه لون السماء وعيونها الزرقاء الطفلة وثغرها الباسم عن لؤلؤ أسنانها وخدودها المتوردة وجبينها الوضاح وكل وجودها ينادي: لنرقص جذلا بمطلع النهار والنور.
وجلس الشيخ والفتاتان زمنا كان فيه مطمئن النفس هادئا. لكنه كان مع ذلك مثقل الرأس لا يبرح النوم يساوره، كأنما قضى ليله في نصب ولغوب. فلما رأت عائشة ذلك منه استأذنته، وانسحبت وتبعتها باترا، وعاد خالد إلى مضجعه، وما لبث أن أطبق الكرى أجفانه من جديد.
وذهبت الفتاتان إلى بعض أزهار غرسها حمزة فجمعتا منها باقة نسقتاها. فلما انقضى ضحى النهار رجعتا إلى الدار جذلتين، ثم دلفتا إلى مخدع الشيخ فإذا هو قد استوى على سريره واتخذ من وسادته متكأ، وتلقاهما بابتسامة مطمئنة. فلما قدمتا له باقة الزهر قال: أعجز عن شكركما على ما صنعتما. لقد أبدعتما طبا لشيخ أجهده الزمان. والآن أبسم معكما ومع هذا النرجس الضاحك والورد البهيج. ألا ما أحلى الزهر يبعث النسيم شذاه فيعطر ما حوله من الأرجاء. وإن طيب الزهر ليضاعف في النفس الحياة ويهز بالسرور القلب والفؤاد.
قالت عائشة: لعل ما نلته من سنة قد عوض عليك أرق ليلك يا أبي.
قال خالد: ما أرقت يا ابنتي طول ليلي. وهل يأرق من يصحبه أحبة أهل شبابه؟ على أني كنت بهذه السنة أسعد حظا. والآن فإليك مفتاح صندوق الكتب. اصنعي بها ما شئت. لم يبق لي بها من حاجة. مثل الذين يبتغون الإيمان طي الكتب كالذين يبتغون السعادة عند الناس. إيماننا كسعادتنا في أنفسنا. هما في هذا الماضي الذي يزعمون أنه لن يعود وهو عائد لا محالة. إن الذين يموتون قبلنا ينتظروننا. ولقد جلست طوال هذه السنة إلى أمك وإلى أم باترا. ما أحلاهما في ثياب الآخرة. خلع عليهما شباب ذلك العالم المنير جمالا ليس يعدله جمال. وهل في الآخرة غير الشباب وجماله؟ وهل يفنى الشباب على هذه الأرض إلا ليتجدد هناك. هذا ما رأيته معهما رأي العين. فأما هذه الكتب وما فيها فأوهام من لا يعرف من الحقيقة شيئا.
قال العجوز هذا القول ثم أضاء وجهه نور لألاء بهر الفتاتين. ذلك هو الإيمان الذي دخل إلى قلبه. ومن يومئذ برئ من الاضطراب ومن نوباته، وانتشر في أرجاء نفسه سرور راض مطمئن، وظل ينتظر اليوم الذي يعود فيه إلى شباب الآخرة بعد أن ودع شباب الدنيا موقنا أن قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وعكف على العبادة، وتوجه بكل قلبه لله ذي الجلال. وفيما هو يوما في صلاته دخلت عليه عائشة فألفته خاشعا تجود عيناه بالدمع. فلما سلم واستغفر التفت إليها فرآها دهشة فقال: لا عليك يا ابنتي. إنها دموع التوبة والمغفرة. وهي أشهى لذائذ الحياة. هي طهر الضمير ولين النفس القاسية. وهي ترياق آثامنا جميعا. معها تسيل الذنوب التي كانت عالقة بنا تؤلمنا وتعذبنا، وتنجاب الظلمات التي كانت تغشي على بصائرنا فتحجب عنا نور الله وحياته، فافرحي يا فتاة لهذه الدموع ولا تحزني.
ناپیژندل شوی مخ