په خالي وختونو کې
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
ژانرونه
فالخطيئة هي الشيء المعتاد الذي لا محل للاستغراب منه، هي الحال الطبيعية الملازمة لغريزة الإنسان، هي الميراث الذي تركه آدم وحواء لأولادهما التعساء من يوم أن اقتربا من الشجرة المحرمة وذاقا ثمرتها التي يخيل إلي أنها كانت ألذ من كل ما أبيح لهما. من ذلك اليوم البعيد لوثت الخطيئة طبيعتها، وانتقلت منهما إلى ذريتهما جيلا بعد جيل، ذلك هو الحمل الثقيل الذي تئن تحته أرواحنا الملتهبة شوقا إلى الفضيلة العاجزة عن الحصول على اليسير منها إلا بمقاساة أصعب المجهودات، حتى هذا النزر القليل لا سبيل إلى بلوغه إلا بتمرين طويل يتخلله حتما سقوط متكرر في الخطيئة يكون منه الدرس المفيد لإتقانه في المستقبل.
وأخيرا فإن العفو هو الوسيلة الوحيدة التي ربما تنفع لإصلاح المذنب؛ فقلما توجد طبيعة مهما كانت يابسة لا يمكن أن تلين إذا هي عولجت» ...
هذه الكلمة ومثيلاتها مما يوجد في كتب قاسم يدل على أنه كان يقف بتفكيراته عند الملاحظة والتجربة والاستقراء أكثر مما تدفعه إلى التفاؤل. صاحبها أكثر ميلا للوحدة والانزواء ليجد الفرصة التي يفكر فيها فيما رأى من الحوادث، وليستسلم إلى تيارات عواطفه وإحساساته المتأثرة بهذه الحوادث؛ لأنه ليس من وصل بالعاطفة إلى ملأ الوجود الأعلى.
والنفوس العصبية التي تتأثر بالعاطفة تدفع بصاحبها إلى التشاؤم، أولئك الذين صاغوا لأنفسهم قوالب من التفكير وقفوا عندها وألبسوا عواطفهم ومشاعرهم ثوبها، فلا تحيلهم الحوادث مهما عصفت، ولا تهز أوتار أفئدتهم المشاهد مهما اشتدت، ليس ماكينة تعمل ما دامت تجد الوقود الذي يملأ جوفها، ولكنه روح إنسانية راقية متصلة بأجزاء العالم المختلفة تتأثر بما يصيب هذه الأجزاء من مختلف الآثار. وهذه النزعات هي ما كان يشاهد في قاسم وما تدل عليه كتاباته، وهي ظاهرة في تقدمة كتابه المرأة الجديدة إلى صديقه سعد زغلول، حيث يقول: «فيك وجدت قلبا يحب وعقلا يفكر وإرادة تعمل، أنت الذي مثلت لي المودة في أكمل أشكالها فأدركت أن الحياة ليست كلها شقاء، وأن فيها ساعات حلوة لمن يعرف قيمتها.» فهذا الاعتقاد بأن معظم ما في الحياة شقاء، وهذا الميل الذي يدفعه إلى أن يجد السآمة في المجتمعات ولا يشعر بها في الوحدة، وهذا الألم الذي يشعر به للنقص الذي يجده حوله، وإحساسه العصبي العميق؛ هذا كله كان نتيجة سببها تحكم العاطفة في نفس قاسم في كل ما يتعلق بمسائل الوجود العام.
ولا عجب فقد كان قاسم ممن يعتقدون بأن العواطف هي التي تسير أعمالنا في الحياة، وأن العناية بها أثناء الطفولة وتربيتها تربية عالية هي التي ترفع الشخص من المستوى الوضيع الذي لا يهتم فيه إلا بمصالح الجسد، ليعرف للروح مصالحها، ويهتم بغذائها ويجاهد لرفعها، وليفهم ضرورة اتصالها بالأرواح الأخرى لفائدة الجماعة، ولفائدة الوطن، ولفائدة الإنسانية. وكان يقول بأن السبب في التأخر والانحطاط الذي كان يشاهد يومئذ في بعض بلاد الشرق ليس راجعا فقط إلى توالي الكوارث والمصائب على هذه البلاد، قال: «وإنما السبب الحقيقي لفقد الشعور هو إهمال تربية العواطف عندنا في زمن الطفولة، وتبع ذلك أن أعصابنا أصبحت لا تتأثر إلا بالإحساسات المادية التي تقع عليها مباشرة، وصارت غير قابلة للتأثر بالمعاني النفسية. رأيت مدة وجودي في فرنسا طفلا عمره عشر سنين كان يتفرج بجانبي على فرقة من العساكر الفرنساوية وهي عائدة من حرب التونكين، فلما مر أمامه حامل العلم وقف هذا الغلام باحترام ورفع قبعته، وحيا العلم وصار يتابعه بنظراته حتى غاب عنه، فأحسست أن الوطن تجسم لهذا الطفل في العلم الذي مر أمامه وأثار عنده جميع الإحساسات التي بعثها فيه ما تربى عليه من حبه حتى خلته رجلا كاملا. أما الرجال والنساء الذين كانوا يشهدون هذا المنظر، فقد وصلت بهم قوة الشعور إلى أنهم صاروا يعملون أعمال الأطفال، فكان الكثير من النساء يقبل العساكر ودموع الفرح تسيل على خدودهن، وأغلب الرجال كانوا يرقصون ويغنون ويلقون بقبعاتهم في الطريق. فبمثل هذه المناظر وما يدور فيها وعنها من الأحاديث أمام الأطفال ينغرس الشعور الوطني في نفوسهم ويزهر ويثمر. هكذا الحال في تربية الفضائل الأخرى.»
فهذه الحكاية البسيطة مكتوبة بتلك اللغة الرشيقة تبين بوضوح وجلاء طريقة تفكير قاسم، وتحكم العاطفة فيه، وتأثير إحساسه الشديد عليه، وعدم ذهابه في البحث عن مصادر الخلق للتفتيش في أعمال عظماء الرجال وكبار القادة. بل كفى أن يرى هذه الحادثة التي تمر أمامنا مثيلاتها كل يوم فلا نلتفت لها ولا نهتم بها لتثير نفسه الحساسة؛ ولتستفز عواطفه وتستوقف عندها تفكيره فيتذكر إلى جانبها مثيلاتها مما مر به ويبني على ذلك حكمه في النهاية. وإن من قرأ كتبه ليجد فيها جميعا هذه النزعة الميالة إلى البساطة الطبيعية الدالة على عظمة النفس عظمة صحيحة لا تكلف فيها ولا ادعاء.
وفضلا عما تدل عليه هذه الحكاية البسيطة من طريق تفكير قاسم، فإنها تدل أيضا على أسلوبه في الكتابة، هذا الأسلوب البسيط السيال الخالي من التكلف والتعمل، البعيد عن تصيد الألفاظ من أعماق أقدم القواميس ورصها بعضها إلى جانب بعض، كأنها رجم الأحجار يقذف بها كاتبها على القارئ حتى لا يلتفت إلى خلو العبارة التي أمامه من المعنى، وكذلك كان شأن قاسم في كتابته دائما؛ كان يضع الصورة أو المعنى بنفسه على أبسط الأشكال، بحيث تكاد تفني الألفاظ دونه، بل تطالبك هذه الألفاظ بأن لا تلتفت إليها هي بالذات، بل بالصورة الجميلة أو بالخيال البديع أو بالمعنى الدقيق الذي تحمله إليك. على أنها دائما ألفاظ رقيقة منتقاة موزونة تشعر أثناء قراءتها كأنك سابح فوق موجات الموسيقى الشعرية، فإذا فرغت منها طاب لك أن تستعيدها مرة ومرتين وثلاثا؛ لأنك تجد فيها غذاء حقيقيا لنفسك المتشوقة للاختلاط بنفس أخرى عظيمة عندها عزيزة عليها، راقية تميل به إلى التأثر مع الإنسانية كلها، وكأن هذه الفترة من حياته التي قضاها بين أظهر الفرنساويين من أهل الثورة الكبرى قوت عنده هذه النزعة الديمقراطية؛ حتى جعلته يرى في كل ما سواها افتياتا على حقوق الإنسان، بل جعلته حين رده على الدوق داركور يذكر ذلك بصراحة ووضوح؛ قال ما ترجمته:
يظهر أن المسيو داركو ينعي علينا عدم وجود الفوارق الاجتماعية عندنا، ويعيبنا لأنا ليس من طوائفنا الأشراف بالمولد أو بغير المولد، وكل السكان الذين يقيمون في بلد إسلامي هم متساوون أمام القانون بلا تفرقة بين أجناسهم ودياناتهم، ولم يعرف الإسلام امتيازات الميلاد أو الثروة، وفي هذا هو قد تقدم بأكثر ألف سنة أشد الأنظمة السياسية الثورية، وذلك ليس عيبا فيما أعتقد؛ فليس من العدل أو الفائدة في شيء أن تخلق مصادفة الميلاد مركزا ممتازا، وليس كون الشخص باشا كافيا ليكون ابنه كذلك، بل ليعمل هذا الابن وليجد حتى يستحق بنفسه هذا الشرف أو ما يزيد عليه، ثم إنه لنائله.
فهذه النزعة الديمقراطية في نفس قاسم هي التي كانت تدفعه ليشعر مع الناس جميعا، هو لم يكن يعرف المظاهر الكاذبة والألقاب الفارغة، لم يكن يهتم بالرجل المترف العائش في النعيم لترفه ونعيمه، ولكنه كان يهتم من كل إنسان رجلا كان أو امرأة بقوة خلقه وبشرف نفسه، كان يكره الضعة والصغار والجبن النفسي، لا فرق أن يكون مصدرها القائد العظيم أو الفلاح الحقير، ولا فرق أن تظهر في المواقف الكبيرة أو في الحالات التافهة. وكان يكره ذلك بميله الفطري المتأثر بعاطفته الإنسانية العالية.
وهذه الحكاية الصغيرة من مشاهدات قاسم تدل دلالة بينة على ما تقدم. قال:
ناپیژندل شوی مخ