په خالي وختونو کې
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
ژانرونه
وهذا العاشق للكتب يجد أكبر اللذة في التحدث إلى ما فيها ومن فيها، وإلى كتابها ومؤلفيها. كان من أول ما كتبه أناتول فرانس رسائل في نقد الكتب والكتاب مجموعة اليوم في أربعة أجزاء بعنوان «الحياة الأدبية». في هذه الرسائل القصيرة صورة من أناتول فرانس، فيها ترى الرجل المطمئن النفس والضمير، الدائم الابتسام، الجامع في ابتسامته بين الإشفاق والاستخفاف؛ وفيها ترى الرجل الذي استطلع صور الحياة في مختلف العصور ومختلف الأمم. ولعل أصدق صور حياة الأمم ما تتناقله من أساطير؛ لذلك يحب أناتول فرانس الأساطير ويلذه أن يرويها هازئا بما فيه من سخف الإنسانية التي لا تزال طفلة برغم ما مر بها من القرون، محبا لهذا السخف حبك لما يبدو من الطفل الصغير الذي تحبه لسخفه.
والحياة في نظر فرانس، الحياة الإنسانية على الأقل، أو قل الحياة كلها، ليست نظاما محكما يستطيع العقل تقرير أسسه وقواعده. إنما هو مجموع مضطرب دائم التجدد والانهيار، للمصادفة في تجدده وانهياره أثر كبير؛ لذلك لا تراه في كتبه روائيا، ولا شاعرا، ولا فيلسوفا، ولا قصصيا. بل تراه حكيما جمع بين الشعر والفلسفة والقصص والرواية، وألف بينها في نظام بديع كما يؤلف الصائغ بين مختلف الدرر المختلفة اللون والشكل فلا يكون من هذا الاختلاف إلا كمال النظام، ولا يكون من جمع فرانس بين صور الحياة المختلفة إلا ما يزيد المجموع حقيقة وحياة.
ولتكون حياته حية حقا؛ وليكون فيها كل ما في الحياة من معان وصور، ينزع هذا الكاتب الكبير في كل كتبه إلى الحوار. وهو يجمع المتحاورين من مختلف طبقات الجماعة على صورة عجب. فهو يجمع بين الفلاسفة والعلماء الذين ملوا الحياة، فكانوا لشدة ما ملوها أشد لها حبا، وأكثر بها تعلقا؛ والشبان الذين لا يزال الأمل في المثل الأسمى يغويهم بالمجازفات والمخاطر، فيجعلهم بمجازفتهم ومخاطرتهم أكثر استمتاعا بالحياة، وإن كانوا أكثر لها احتقارا؛ والعذارى البالغات في الطهر والبراءة حد السخف والتفاهة، والسيدات اللاتي اعتصرن لب الحياة من قلوب الرجال وعقولهم، فهن ينعمن به ويخلعن فتات نعيمهن متاعا للرجال. فإذا اجتمع هؤلاء ودار الحوار بينهم رأيت الإنسانية على حقيقتها، ورأيت العقل المحلق في سماوات التجريد يصل إلى حدود الوهم، ويحسب الوهم حقيقة وحسا، ورأيت العلم المحدق بالمجهر المستكشف بالأشعة الواقف عند حدود الملاحظة يزعم أنه كشف عن حقيقة كل شيء ونظامه، وهو بعد عاجز عن أن يكشف عن كثير من أقرب الأشياء لنا وأمسها بنا. ورأيت هذا العلم وذلك العقل يجدان في اندفاعات الشباب ما يبسم له العالم الفيلسوف. ورأيت في اندفاع الشباب وشهوته وحياته ما يضطرب له العلم والعقل فزعا. ثم كانت الابتسامة التافهة الطاهرة، وكانت النظرة النسائية المملوءة حبا للحياة وحرصا على خلودها ... وأنت بين هذه القوى المتدافعة تشعر بيد الكاتب المحسنة تنقلك من حديث إلى حديث، فإذا كل حديث حق وحكمة، وإذا العقل والعلم والشباب والحب كلها الحياة الدائمة الانهيار والتجدد في نظام لا يضطرب ولا يتعثر. وإذا هذا الحوار الذي جمع بين هذه المظاهر كلها هو صورة الكاتب الذي يرى الحياة من كل جوانبها ويحبها جميعا حب حنان ورحمة كما يحب الأب ابنه، وحب استمتاع ولذة كما يحب العاشق معشوقته. ثم إذا بك قد شغفت بهذا الحوار حبا أن صاغه أناتول فرانس حوارا مملوءا بالحياة والقوة؛ لكنها حياة مطمئنة وقوة هادئة؛ وهو مع حياته وقوته ينساب سلسا في أسلوب لا ينبو، وكأنه الماء الصافي ينم صفاؤه عن كل ما في الغدير من صور الحياة فيزيدها بهاء وجمالا.
وهذه الحكمة التي تجمع العقل والعلم والشباب والحب، وكل ما في الحياة من صورة ومعنى، والتي تدرك كل شيء وتعذر من كل شيء وتشفق على الضعيف إشفاقها على البائس وعلى الأثيم؛ لأنها ترى الإثم بؤسا وضعفا، وترى الضعف بؤسا وإثما؛ والتي تعجب من الحياة بكل صورة الحياة - هي أسمى مظاهر ما يسمونه التشكك واللاأدرية وما شئت من ألفاظ تقابل لفظ (السبتسسم) الفرنسي. وهل ترى في الحياة شيئا ثابتا تقف عند الإيمان به دون سواه؟ أليست الحياة تمور وتجدد وتغير؟ فأي صورة خير؟ أيهما أنعم حالا: هذا الرجل الغني المستمتع بسلطان الغنى وبجاه المال والقدير على أن يحسن ويسيء؛ أم هذا الرجل الفقير المنقطع إلى الله يريد أن يغفر الله له وهو لا يستطيع لنفسه ولا لغيره خيرا ولا شرا ولا يستطيع الإحسان ولا الإساءة؟ وأيهما أكثر بالحياة استمتاعا: هذا العالم الذي بحث أسرار الحياة ووقف من دقائقها على كثير؛ أم هذا الرجل الساذج المفتول الساعد الذي يسير بين الموجودات سيرة الحيوان القوى ويستمتع بها استمتاعه؟ وأيها أحب إليك: هذه المرأة الجميلة التي تجد في كل وقت من إعجاب المعجبين بها ما يملأ قلبها سرورا، وهي مع ذلك معنية بهم جميعا معطية نفسها للحاضر خشية ما في المستقبل من تجاعيد في الوجه ومن بياض في الشعر؟ أم هذه الأم المكبة على عملها في بيتها تنتظر من أولادها رجالا يكونون لها في المشيب شبابا وحين الضعف قوة؟ ... ثم أي الجماعات أسعد: أهي الجماعات القديمة الرحالة العائشة عيش البدو والبساطة؟ أم هي الجماعات المتمدينة المترفة الجامعة إلى جانب بؤس الفقراء ما تنعم الجماعة به من صور الفن والعلم؟
لكن هذه جميعا على ما بينها من تناقض هي صورة الحياة. وهي كلها قد اجتمعت عند أناتول فرانس فوسعتها نفسه فنفثها قلمه، معجبا بها محبا إياها جميعا.
وهو لا يقف عند محبته للحياة، بل هو يحب مظاهر الحياة، على أن تكون هذه المظاهر باقية متجددة. وليس باقيا على الحياة من مظاهرها إلا العلم والفن؛ وهو لذلك بهما مشغوف ولهما عاشق. وهو لشدة شغفه بهما يتمثلها تمثلا. فعلمه فن وفنه علم. اقرأ ما شئت من كتبه، إنك لن ترى فيما تقرأ خيالا ولا وهما. إنما تلك آثار الفكر الإنساني في مختلف العصور؛ وقف عليها فرانس لأن شغفه بالإنسانية جعل الأقاصيص والكتب وما إليها من آثار وصور عزيزة عليه فهو لا يفتأ ينقب فيها من غير ملال ولا ضجر. وهل يمل محب النظر إلى محبوبه؟ وهل يمل التغني بآثاره؟ وهل يمل الابتسام من ظريف سخفه وحمقه؟ إذن أنت إذ تقرأ ما يلذ لفرانس أن يكتبه من قصص الماضي إنما تجتلي ابتسامته الساخرة من غير سوء؛ وأنت تقرأ تاريخ الرومان في كتابه (على الحجر الأبيض) وتاريخ العصر الحاضر في أجزائه الأربعة وفي سائر كتبه، إنما تسمع أغاني هذا المحب الوامق للإنسانية الخالدة بنعيمها وبؤسها، وبجمالها المخيف وقبحها المليح.
لكنه في حبه للحياة يمقت من مظاهر الحياة القسوة والشقاء، ولا يرى في أولئك العظماء الذين يقيمون عظمتهم على الدماء إلا قتلة مجرمين؛ وهو لذلك يحب الاشتراكية لأنه يعتقدها محققة أكبر قسط من العدل، وإن كان يسخر من الإنسان ولو اشتراكيا؛ لأنه يعرفه خاضعا للشهوة، والشهوة لا تعرف العدل. هو يحب الاشتراكية ويمقت القسوة والشقاء والدم؛ ويرى في أبطال الثورة الفرنسية، أو آلهتها كما يسميهم، قوما غلبت أطماعهم مبادئهم فهدموا ركن العدل الذي سعوا لإقامته؛ لأنهم لجأوا للبطش والتنكيل بالحرية. وهل للحياة من غير الحرية معنى أو قيمة؟ أو ليس إذن من واجب كل فرد أن يقوم في وجه كل اعتداء على الحرية مهما كلفه قيامه من تضحية؟ ...
أعلنت ألمانيا الحرب سنة 1914 وكان فرانس يومئذ في السبعين من عمره، وكان في ذروة مجده وحكمته، مع ذلك هجر قصره ومجموعاته المحبوبة، وذهب إلى أصدقائه الوزراء يرجوهم، ويلح في الرجاء أن يكون جنديا يدافع عن الحرية المهانة، وكم كان أسفه عظيما حين اضطر إلى أن يعود إلى حياة السكون؛ لأن الجيش لا يقبل من بلغ السبعين في صفوف الجنود.
ولا يزال فرانس إلى اليوم أكبر نصير للحرية على مختلف صورها؛ ولا يزال نصيرا لحرية الفكر والرأي بنوع خاص. دافع عن هرفيه يوم حوكم؛ لأنه كتب يحبذ إحدى الجرائم. ودافع عن مؤلف (الجارسن) يوم استردت الجمهورية منه (اللجيون دونور). وهو في دفاعه يرى أن كل عمل وكل قانون يحد من حرية الرأي وإبدائه قانون أثيم.
فالحرية وحدها والدفاع عنها هو الذي يثير هذه النفس المطمئنة، وهو الذي يمحو عن شفاه أناتول فرانس ابتسامتها الدائمة. فأما ما بقيت الحرية مصونة فالحياة سخرية لذيذة تستحق أن تحب في سكون وسلام؛ فإذا كان آخر الأجل اطمأن الحكيم إلى الانتقال من هذا العالم راضي النفس هادئا مستريحا. •••
ناپیژندل شوی مخ