أما بداية محاضرته الثانية، فأهم ما تضمنت محاورات «برونو »، وهي ثلاثة. ففيها تحل الفضائل محل الوحوش الخيالية التي مثل لها في محاضرته الأولى، فيسود بدلا منها الحق والتبصر والحكمة والقانون والنظام.
ثم هاجم المعتقدات القديمة وأصحابها هجوما عنيفا، فقال: «إن الكهنة فئة متعالمة، تعمل دائما على هدم سعادة الإنسان في الأرض؛ وإن بهم أطماعا دنيوية، فضلا عما بهم من انحلال الخلق، ونزعتهم إلى بذر الشقاق والخلافات بين البشر.»
وهزأ بالأسرار المقدسة، فقال: «إن قصص التوراة أساطير أشبه بأساطير الإغريق.» ونفى المعجزات قائلا إنها إلى صناعة السحر أقرب شيء. •••
تعقبه رجال محكمة التفتيش، فقبضوا عليه وسجنوه. ثم أخذ إلى روما في سنة 1593، حيث قضى في السجن سبع سنين. وفي فبراير من سنة 1600 طرد من حظيرة النصرانية، وفي السابع عشر من ذلك الشهر أحرق حيا في روما.
وظل «برونو» ذلك الثائر الحر، مطويا في جوف التاريخ قرنين كاملين، حتى تنبه إليه الفكر الذي كان أكبر المدافعين عن حريته، فأقيم له تمثال في روما نصب في ميدان «كامبو دي فيوري»، وفي نفس المكان الذي أحرق فيه.
موكب الحياة
في الأساطير القديمة قصص عن أشخاص أو رواد أو أبطال، وهبتهم الطبيعة قدرة خاصة على فهم منطق الطير؛ ذلك الذي ظن خطأ أنه أبكم لا يقدر على شيء. وعلى الرغم من أننا لم نزود بكفاية القدرة على فهم منطق الحيوان، ذلك المنطق الذي يتألف من إشارات وأصوات، فإن البحوث الحديثة قد هيأت لنا فرصة الوقوف على المخلوقات التي تعايشنا فوق هذه الأرض. فرفعنا بعض الحجب التي لا يزال كثير منها يغشى على مباحث التاريخ الطبيعي، حتى بعد أن أفلح علماء الأحياء، وعلى رأسهم «لينايوس» في أن يبينوا لنا عن العلاقات الأساسية التي تربط بين نواحي الطبيعة الحية. •••
في سنة من أوالي سني القرن العشرين، وجه محرر إحدى الصحف سؤالا لقرائه، أراد به أن يعرف منهم اسم الكاتب الإنجليزي الذي خلف أكبر الأثر في توجيه الفكر الإنساني في أثناء القرن الفارط. وألقي هذا السؤال على سير «هربرت مكسويل» العالم الطبيعي المعروف، كما ألقي على غيره .
يقول سير هربرت، إنه عندما مضى يفكر في الاسم الذي يكتبه، أخذ القلم بعد قليل وكتب اسم «شارلس داروين».
قد يتفق أن يوجد من يأنف أن يضفي هذا الشرف على عالم مواليدي، دون مجموع اللاهوتيين والمؤرخين والفلاسفة والأخلاقيين والشعراء وكتاب المقالة والقصصيين، الذين ظهروا في خلال القرن التاسع عشر برمته، ومنهم من خلف آثارا دمغ بها الفكر بطابع ثابت في الناحية التي تمشت فيها مواهبه. غير أن الواقع أنه لم يتح لواحد من هؤلاء أن يصمد لمثل ما صمد له «داروين» من عناد ونبذ لما أتى به من حقائق العلم الطبيعي في أي فرع من فروع المعرفة، ولم ينتصر غيره في مجاله، انتصار «داروين» في مجال ذلك العلم، ولم يخلف غيره من الأثر ما خلف من النتائج وأساليب البحث في ميادين النشاط العقلي.
ناپیژندل شوی مخ