إذا لم يكن بد من أن نلقى بنظرات التأمل في الأدب والحياة، فأي شيء أجدر من هذا بأن نرسل إليه بتأملاتنا ونخصه بتفكيرنا؟
طه حسين والشعر الجاهلي
كان مثل صاحب الشعر الجاهلي في كتابه الأدبي كمثل ابن خلدون في كتابه التاريخي، فإن بين مقدمة ابن خلدون وتاريخه فارقا بعيدا، كما أن بين منهج البحث في كتاب الشعر الجاهلي والبحث نفسه صدعا متنائيا.
أراد الدكتور طه حسين أن ينهج في البحث منهج ديكارت في أن يجرد نفسه من كل التقاليد الوراثية، من دين ولغة وقومية وميول نفسية ... إلى غير ذلك، وأن يدخل البحث بكرا صافيا، ولكنه لم يلبث أن أذعن لموحيات من الشك هي في ذاتها نزعة وتقليد، فهل يحق له بعد أن يعترف بأنه يشك بأنه خلو من كل تقليد؟ أو أنه صفى نفسه من كل النزعات؟ وإلا فإنا نسأله ما هو الشك، إن لم يكن نزعة وتقليدا؟
ألح على الدكتور طه الشك في حقيقة الشعر الجاهلي، وهو يعترف بهذا ولا يخفيه، إذن فقد بدأ بحثه شاكا خاضعا لنزعة الشك، مقنعا رأسه لتقاليدها، كذلك ألحت على ديكارت فكرة أنه «كائن»؛ إذ يقول في أول تأملاته: «أنا أفكر، أنا إذن كائن.» أي موجود في الحياة الدنيا، إذن فهو بحكم أنه مفكر وبحكم أنه كائن، لا بد من أن يكون خاضعا لتقاليد الحياة بأكملها، وهو إن استطاع أن يقول بأنه جرد نفسه من التقاليد نظريا، فإنه لم يستطع أن يخلص بنفسه من براثن الوراثة عمليا.
وما أظن أن أسلوب ديكارت إلا أسلوبا نظريا لا يمكن تطبيقه تطبيقا عمليا، أو يتبدل الإنسان من طبيعته طبيعة أخرى. لقد سد أسلوب ديكارت من العقول فراغا كبيرا في تلك الأزمان، التي لم تكن المعارف الإنسانية قد وثقت فيها بعد لعلمي البيولوجيا والوراثة. أما اليوم فالاعتقاد العملي الصحيح هو أن الإنسان مجموعة صفات وراثية وتقاليد لا يستطيع أن ينفك عنها أو ينفك عن طبيعته ذاتها، فهل يصح بعد هذا أن نقول بأن في مستطاعنا أن نبدأ بحثا من الأبحاث، وملء أنفسنا شك قاتل، ثم ندعي بعد ذلك أننا خلصنا من الوراثة والتقاليد؟ ألم يقل أناتول فرانس: «قل للذي يدعي بأنه خال من الأوهام، هذا أول أوهامك.»
الله والزمان والمكان
يقول المعري:
قلتم لنا إله قديم
قلنا صدقتم كذا نقول
ناپیژندل شوی مخ