ثم إذا ما اشتركت مصر في هذه الدراسة العامة مع بنات تلك الأم الأولى، فإنها تعود بعد ذلك لتدرس من هذه الجزيرة نواحي صلتها الخاصة بها، وأن لها بالجزيرة العربية من هذه الصلات لكثيرا وكثيرا، فقد سامتتها على شاطئ البحر الأحمر وضاق ما بينهما في الجنوب حتى كادتا تتواصلان، حين اتصل ما بينهما فعلا في الشمال، فكان الشعب المصري الأقدم ذا صلة بهذه الجزيرة وثيقة - مهما يختلف الرأي في أن الذين جاءوا مصر من هذه الأنحاء قد جاءوا من الشمال أو عن طريق الجنوب - وقد اتصل ما بينهما في نواح عدة من نواحي الاتصال التي تعقدها بينهما أواصر قوية، في أساطير مشتركة، وعقائد مشتركة، ومنافع مشتركة، ومعارف مشتركة، وغير ذلك من الشركة. مما يجعل مصر تشعر يوم تصحح أسلوب دراستها أن لها بالبحر الأحمر وحضارته صلة كتلك التي تعرفها لنفسها بالبحر الأبيض، وسنشير إلى ذلك فيما يلي.
وكذلك يتم درس الجزيرة العربية بالنظر فيما يصل مصر بها، من صلات مختلفة في عصور وعهود متعددة، وتكون دراسة هذه العروبة في جزيرتها مادة من مواد فهم المصرية في حقيقتها، وواجبا تفرضه إقليمية الأدب لغير واحد من الأسباب على ما رأينا.
عليكم بيئتكم
وإذا كانت الجزيرة منزل العربية الأول، ومنها خرجت إلى غيرها من منازل ومواطن جديدة، فالخطوة التالية لدرس الجزيرة هي درس الأوطان الجديدة العربية، أو درس عربية المواطن الجديدة.
والبيئة الطبيعية - كما كررنا - بوتقة الدهر، ومختبر الزمن، يجري فيها تجاربه الإلهية، ويطبع الحياة بنتائج هذه التجارب؛ فتسجلها الأحداث، وتخلدها الوقائع. وما التاريخ كما بينا، إلا الوصف الصحيح الدقيق لهذا كله، وتاريخ الأدب بعض هذا الوصف الصحيح الدقيق، فالواقع الشاهد يرد الدرس إلى هذه الأصول البيئية الواضحة، ويجعل الأخذ بهذه الفكرة في البيئة كما قلنا، قضية العلم في تاريخ الأدب.
وإذا كان الدرس للبيئة، فأصحابها هم أحق بها وأهلها، يمارسون من ذلك ما هو في أنفسهم، ومنهم، ولهم، وهم أهدى إليه سبيلا، وأقوم فيه قيلا.
ولو كانت الفطرة قد خالفت نواميسها في حياة هذه العروبة وحدها، وجعلت من منازلها الفسيحة، ومساكنها المتباعدة وطنا واحدا استوى فيه الشرقي والغربي، والسهلي والجبلي، والزراعي والصناعي، فقد كان من الصواب أن تقسم أجزاء هذا الوطن الموحد - رغم قوانين الكون وسنن الوجود - إلى قطع وأقسام، يقوم كل قبيل من الدارسين بفحص قسم منها، والتوافر المتخصص على درسه وتفهمه، ولكنك لن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا. وما شذت العربية في حياتها عما خضعت لقهره وانقادت لفعله، لغى الدنيا، وشعوب العالم، فخصصتها المخصصات الإقليمية، واحتكمت فيها عوامل البيئة المادية، فميزت فيها أقساما تحتاج إلى الدراسة المفردة، وهي التي نريد ليقوم بها كل قوم في خاصتهم، حين ندعوهم «عليكم بيئتكم». •••
البيئة الطبيعية بحقيقتها، وكما سمعت من وصفها بأنها «بوتقة الدهر ومختبر الزمن»، تمزج العناصر التي تلقي بها الحياة فيها أوثق مزج، وتخرج منها ذلك الكائن الذي ألفت بين أجزائه قوى فوق كل قوة ومقدرة تحتكم في سائر القدر. وبهذه البيئة الطبيعية لها توجه البيئة المعنوية إلى جانب موجهاتها الأخرى. فليس يصح مع هذا كله أن يحاول دارس أدب أو غيره، أن يفصم عرى أحكمت وثاقتها يد القدر، فيبتر ماضيا عن حاضر، أو يصنع مستقبلا بارئا منهما! وهكذا ندرك في جلاء أن أمس واليوم قطعتان من الزمن، وأن هذا الغد بقيتهما وتمامهما، لو كان الزمن شيئا يقطع أو يتصور مجزأ، ولكنه منيع عن هذا، حتى في الذهن.
وليس لدارس أن يقطع يومه عن أمسه، ويبدأ درسه وفهمه من حيث يريد هو ويحتكم! بل عليه أن يقدر ما أسلفنا من أثر نواميس الحياة في الكائنات التي تنتظمها بيئة واحدة، وتربط بينها أواصر فطرية من صنع يد الله. وأصحاب الفنون والآداب - كما ذكرنا - أحوج الناس إلى تقدير هذا كله؛ لأن فنونهم وآدابهم أشد تأثرا بذلك، بل هي مظهره الجلي البين. وإذن تدرس البيئة منذ عرف لها تاريخ على نحو ما بينا من ذلك في بحث أثر الإقليمية في المنهج، وما يتبع في دراسة مصر بخاصة، وعلى مثل ذلك تدرس البيئات الأخرى كلها (انظر [الأدب المصري]).
فيدرس أصحاب الأدب في مصر بيئتهم، ويدرس أصحاب الأدب في الشام، وفي المغرب، وفي العراق تلك البيئات،
ناپیژندل شوی مخ