ونقول لهؤلاء: لا بأس علينا في شيء من هذا، ما قضت به سلامة المنهج، وتسديد الخطة، فما يرضينا قط أن نزعم أننا نقول ونعيد في أدب مصر المسلمة، لنزعم أننا ندرسه، وإنما الذي يعنينا أن تسدد خطى هذه الأمة في حياتها العالمة، ويعنينا أن يوفق عملها في سائر ميادين الحياة الأخرى وسبل الوجود، ولو كان ذلك التسديد والتوفيق لا يكون ثمنه إلا أعز ما نملك، وآثر ما نؤثر، تنتزعه منا أمتنا انتزاعا، بل أحبب إلينا أن نسبق طلبها، فنؤثرها به، ونعجل إليها ما نريد، فكيف بما دون ذلك من ادعاء درس، وانتحال بحث؟ •••
على أنا نعود فنقول لهؤلاء المتعجلين، ربما لا ننتظر إلى أن ينهض أصحاب الآثار المصرية، والتاريخ القديم، بتمكيننا من آداب هذا العهد، وتيسير درسها، أو بإتمام هذا الدرس، وتقديم ثماره لنا، لأنا نعرف أنهم إلى اليوم قد أصابوا - أو بالأحرى أصاب الغربيون لهم - غير قليل من المعارف المتصلة بالشئون المصرية، ودونوا فيه مقررات غير يسيرة ولا تافهة. كما أن أولئك الغربيين قد فرغوا لدراسات طيبة في حياة الفنون المصرية الأخرى، سوى فن القول، وهي مما يعين إعانة جلية على دراسة الفن الأدبي. وبالنظر في كل أولئك مما أتمه أصحاب الآثار، غربيون أو شرقيون، نستطيع - ولو مؤقتا - الاعتماد على نتائجه، ما دمنا إنما نقوم اليوم أولا بالنظر فيما حول الأدب المصري من دراسات، أو فيما بعد ذلك من دراسة النصوص الأدبية المصرية نفسها بعد جمعها وتمحيصها وتحقيقها على نحو ما بينا قريبا. وفي هاتين الناحيتين: - ما حول الأدب، والنصوص الأدبية - قد يوفي بنا ما يقدم أصحاب هذه الدراسات القديمة لمصر من حقائق، على شيء مما يتمثله المنهج المحرر، أو لا أقل من أن نقبله مؤقتا، معنيين بأن نجاهدهم مع هذا، على أن يضعوا بين يدينا المواد التي لا بد من أن نظفر بها أولا، قبل أن نجرؤ على الحديث عن تاريخ الأدب المصري. وتلك المواد هي: (أ)
مجموعة أو مجموعات تنتظم جميع ما وصلت إليه أيديهم، من نصوص أدبية مصرية للعصور المختلفة، في أغراضها وفنونها المتعددة، على ما هو معروف في فنون الشعر والنثر. وأن تترجم تلك المجموعة أو المجموعات، عن أصولها المصرية القديمة ترجمة دقيقة؛ لينظر فيها أصحاب الأدب منا نظرة متذوقة فاحصة ناقدة، تكفي لتبين خصائصها بأدق وأعمق وأهدأ، مما نظر به إليها الغربيون في هذه النصوص، ويحكم فيها أصحاب الأدب منا كذلك أحكاما أدبية وتاريخية أصح وأصدق وأضبط، مما حكم بها عليه هؤلاء الغربيون؛ لأنهم أجانب عن ماضيها وحاضرها وذوقها، على حين ورثنا نحن ذلك كله، دما جاريا، وحسا نابضا، وشهدناه واقعا شاخصا، نغدو بين معالمه ونروح. (ب)
دراسة فاحصة عميقة للفنون المصرية الأخرى، عدا هذا الفن القولي، بحيث تتكشف لنا حياة هذه الفنون وتاريخها، تكشفا يجلي لنا ما امتازت به بين فنون الأمم من طابع وخاصة، تحدث عن الروح المصرية، والمزاج المصري، والشخصية المصرية، فنستطيع بهديها فهم هذا الطابع، وتلك المميزات في فننا الأدبي، الذي نستشف تأثير قديمه التالد، في حديثه العربي الإسلامي التالي. (ج)
دراسة صحيحة المنهج، كاملة الأجزاء، عن نواحي الحياة المصرية الأخرى، ومظاهرها المختلفة من اجتماعية واعتقادية وغيرها، ليمدنا ذلك بالمعنوية اللازمة لفهم هذا الأدب الذي هو أحد تلك المظاهر الحيوية. ولعلنا نحن المصريين من أحسن الناس حظا في هذا الميدان؛ إذ خلف أسلافنا ما خلفوا من معالم حياتهم، فكفت آثارهم لتصويرها أدق تصوير وأصدقه.
وجلي أن التاريخ بمعناه العام يكون قد درس أصح الدراسة حينما يمكننا الظفر بهذه الصور المنتقاة، فلا ضرورة للفت النظر إلى الفراغ من درسه أولا.
تلك صورة عامة لما سنجاهد أصحاب المصريات على أن يضعوه بين يدينا وفي لغتنا، حتى تكون دراستنا للأدب المصري الإسلامي وتاريخه، قد أقيمت على أساس صحيح، ومنهج سليم. وليس ما نزاوله فيها قبل اكتمال هذه النواحي إلا عملا مؤقتا، وضرورة يلازمنا معها الشعور القوي بالنقص، والطموح الجاد إلى الاكتمال، غير قانعين بما يقدم الآن أصحاب المصريات مؤقتا من معلومات عن الحياة والفن المصري. •••
بهذا لا ننتظر متعطلين، ولا نمضي راضين، مخلدين إلى الراحة، مكتفين بما لدينا، بل سنقدر كلما قررنا قضية، أو اطمأننا إلى فكرة في هذه الدراسة الأدبية، أننا لا نقول الكلمة الأخيرة، ولا نقطع الطريق على عمل مستمر التكامل، متجدد الرقي، يفرغ فيه الدارس لهذا الأدب المصري وتاريخه، بعد أن تتوطد الأسس المتينة له، من الخبرة الوافية الكاملة بأدب مصر في عصوره الغابرة، التي سلك فيها ذلك الأدب سبيله، في أثناء الدهر ومسارب الزمن، ومضت الشخصية المصرية المخلدة تتقدم به على الأجيال، متأثرة بمختلف ما تلقي عليها الأيام، من ظلال جنسية وسياسية واجتماعية، من بينها ظل الصلة العربية، والراية الإسلامية، في البضعة عشر قرنا الأخيرة.
من أجل ذلك لن نكف عن أن نذكر أنفسنا، ولا عن أن نذكر كل متصل بأدب هذا العصر، بأن الأساس الذي يقام عليه بناء هذا البحث، إنما هو مصري مصري، قديم قديم، يتصل بعمل أصحاب المصريات، قبل أن يتصل بأي شيء آخر، وأكثر مما يتصل بأي شيء آخر، ويستعين بمعارفهم قبل أن يستعين بغيرها. ولن تقال كلمة مؤرخة في وصف الحياة الأدبية لمصر الإسلامية، على نحو ما نرجوه من الدرس الصادق لتاريخ الأدب، إلا بعد أن نكون قد ظفرنا بالجهد المفرد للمصريين أنفسهم، وبذوق المصريين ذاتهم، وبجدهم هم، ويقظتهم هم لذواتهم، في ماضي حياتهم، وفنونهم، وآدابهم، بحيث تكون في يد كل مزاول لهذا الأدب المصري الإسلامي، أكبر وأكمل مجموعة، من المنشآت الأدبية للعصور المصرية السابقة، كلها يحيا فيها حينا إلى جانب حياته في مصر الحديثة، فيرهف بذلك حسه، ويدق تذوقه لهذا الأدب، ويظفر بمفاتيح إغلاقه، ومصابيح سراديبه، من ماض بعيد قد تأثر به ولا شك، حاضرنا القريب. •••
ذلك شعورنا حين نتقدم ولا ننتظر، وهذه أمانينا حين نصيب شيئا من هذا الدرس، ولما يتوطد لنا ما نبغي من أساس بعد. فإن أبى الناس إلا أن يعتبرونا فيما نتعجل من ذلك، قبل الظفر بالأصول الكاملة، دارسين مؤقتين، أو عاملين في دور الانتقال، ومرحلة الإعداد لا أكثر ولا أقل، فلهم ذلك، وما جاروا. ونحن أطيب نفسا بأجف من هذا الوصف، وأقسى من هذا النعت، نؤثر ذلك على أن نكذب أنفسنا وقومنا، والأجيال الخالفة، فتخفى الحقيقة الصحيحة في المنهج السليم، ونزعم لأنفسنا الكفاية الدارسة، والمقدرة الموفورة، والأستاذية الجليلة للأدب المصري وتاريخه.
ناپیژندل شوی مخ