لعلنا حين نقدر ذلك ندرك أن طواف ناصر خسرو أو أمثاله من المطوفين، لا يكفي لأن ينهض حجة علمية، وسندا لباحث يتحدث عن اختلاف البيئات وتفاوت الفنون، وتغاير ذلك بمعالم كبرى من الجنس والدم، والثقافة والبيئة والوراثة، وما إلى ذلك مما يكفي أقله لأكثر من مثل هذه الدعاوى في الاختلاف والتفاوت! نعم لن ينكر أحد أن هذه الجماعات كانت تلوذ بأصل واحد هو القرآن، وتجمعها معالم كبرى موحدة، ومظاهر عامة مشتركة، مما يلتقي حول مثله الناس في حياتهم. لكنه لا يكفي لأن يصرف الباحث عما بينهم وراء ذلك، من خفي عوامل التفريق وظاهرها، وكانت هذه الظواهر المشتركة، والخطوط الرئيسية الكبرى الموحدة، هي التي تقرب ما بين قلوب أصحاب الدين الواحد، وتيسر للراحلين الأنس والألفة لأهل هذه البلاد، واستطاعة التقلب بينهم. وشاهد هذا اليوم قائم قريب، فقد قصدت في رغبة قوية إلى زيارة المناطق التي فيها مسلمون بأوروبا الشرقية، كرومانيا ويوجوسلافيا وغيرهما، وكانوا يأنسون بي وكنت آنس إليهم، ولعل ذلك كان بيننا متبادلا وقلبيا، أكثر مما بين هؤلاء ومواطنيهم من غير المسلمين، وإن لم يقم هذا على شيء من أصول الوحدة، ووشائج الامتزاج التي تؤلف بيننا، أكثر من العقيدة المشتركة، والعاطفة الدينية المتبادلة.
على أن هذه الدولة الإسلامية التي كان يسهل على السائح التنقل بين أطرافها المترامية، مهما يكن فيها من أسباب التوحد فوق العاطفة الدينية، فإن تلك الأسباب مهما تتعدد، لن تزيل منها مظاهر اختلاف، ومعالم افتراق، أوضح وأجلى من أن تخطئها عين باحث غير عشواء. وإذا كان السفر في ألمانيا في القرن الثامن عشر الميلادي لم يتهيأ للراحل، فليس تهيؤه في المشرق للمسلم دليل توحد، ولا برهانا كافيا لنسيان الواجب العلمي، وإهمال حقيقته الناطقة في إقليمية الأدب.
ومما سمعت من اعتراض المعترضين على الإقليمية في نقاش وحديث:
أن هذه الأقاليم بعد الفتح الإسلامي وانسياح العرب فيها، لم تعرف إلا العروبة التي أتمت تلك المعجزة الاجتماعية، حين ذهبت في الأرض تحمل قبس الدعوة الإسلامية، تعطي بيمينها هذا الهدي الديني، وتتم بيسارها هذا الصوغ الفني. أليست العربية قد صارت لغة كل أولئك الأقوام، فنسوا بها ما سجل آباؤهم في صفحات الدهر، مهما تكن صفحات خالدة، وانصرفوا لا يلوون حتى على الصخور الثوابت، والأهرام الرواسخ، قد استعربوا لغة ومزاجا، وفنا وعقلا، كما أسلموا، أو حمدوا للإسلام ما هيأ لهم من ذمة وعهد لا يخيس ولا يخفر؟ ولا تحسبن هذا الذي يوصف من الخلق الاجتماعي الجديد الذي أتمه الإسلام بدعا من السنن الاجتماعية، ولا خروجا على النواميس الكونية، فإن له لنظيرا أو نظائر، في محاولات الإسلام الأخرى؛ فالفتح الإسلامي قد أنجز في سرعة لم تعهد من قبل، ولو قيست بغيرها من صنيع الدول الفاتحة؛ لأزرت به في غير جدال؟ وها هو ذا ما بقي من أثر إسلامي في تلك البيئات التي جاءها الإسلام، تراه أثرا قد أربى في ثباته ورسوخه وبقائه وصموده، على كل ما عرفت تلك الأودية والأقاليم من آثار أمم أخرى عمرت الأرض أكثر مما عمرها المسلمون، وكانت أشد قوة، وأكثر جمعا، ولكنها زالت وامحت آثارها، بعد يسير من الزمن، ولم يبق منها ما بقي من طابع الإسلام في حياة أهل هذه البلاد. فإن كانت للفتح الإسلامي تلك السرعة المسرفة، ولاستعماره ذلك البقاء العتيد، فلا تعجب لقولنا إنه مسح بيده القادرة على ماضي تلك الأمم، وأنساها قديم شخصيتها ونفسها، فيما أنساها من لغة لها، وما أنساها من دين، وما هون عليها من حرمة ماض موغل في القدم، ذاهب العرق في الزمن.
وما محاولة العناية بالإقليمية اليوم إلا لونا من مدافعة هذه القوة الدامغة، ومناضلة هذا الطابع الدامغ الراسخ، وهي محاولة لا خير فيها لدعاتها، ولا خير فيها لمن يراد تحقيقها لهم؛ لأنها لن تكون أكثر مما مضى من نظائر، وما تكرر قديما من أشباه، تضاءلت جميعا أمام ما صاغ الإسلام من نفوس أولئك الأتباع ، وما خلف في قرارة أرواحهم من أثر. •••
والمصغي لهذا القول يستمع منه أنغاما لاهوتية تعتز فيها العروبة بالإسلام، ويدرك من خلاله ما قد يفصح عنه أصحابه في غير هذا الموضع؛ إذ يصلون بين العرب والإسلام، أو يرونهما في حساب الحياة والتاريخ شيئا واحدا. وهو رأي حظه من الصواب محدود، أو هو معدوم؛ فالإسلام عدو هذه العصبية بدمائها وأنسابها وأجناسها، وما قبل ولن يقبل يوما أن يعرج منها على شيء، أو ينصر منها شيئا. وإذا كان العرب هم الذين تلقوا الإسلام، ثم لقوا الناس به، فلن يجعل صنيعهم هذا الإسلام دينا عربيا، ولا دينا عصبيا، ولا دعوة محدودة الأفق ضيقة العطن، على نحو ما تتكثر به الشعوب حينا ما، أو تعتز به الأمم، أو تستغله الدول، وتتجر به السياسة.
وهذه الدعوى التي تصل بين الإسلام والعرب تلك الصلة، دعوى تعاون في تأييدها عناصر سياسية أو دينية السمة، لا إخال الإسلام يبقي منها على شيء، ما دام هو ذلك الدين الإنساني العام العالمي الصالح للبقاء.
وإنه لعجب من العجب أن هذه العروبة التي اعتزت بالإسلام يوما، واستندت إليه في لون من النضال السياسي، لم تلبث حين تغيرت بها الأحوال أن حورت في موقفها، وجعلت العروبة هي الشرق، والشرق هو العروبة، يستظهر فيها العرب المسلمون بقديم القول فيما بين الإسلام والعروبة من صلة، ويخافت غير المسلمين من العرب ويجمجمون بذلك في خفية، ليجهروا بعدها بأن العروبة هي الشرق، وأن الشرق هو العروبة. وتلك وأشباهها تيارات تحركها رياح وأنواء متغيرة، ولا يثبت مثلها على الزمن، فلا يقف عند مثلها العلم، مهما تدوي في الحياة، أو تحدث من ضجيج.
وفي حساب العلم يجب اطراح ذلك كله، وتجريد هذا الاعتراض من الخلط بين الإسلام والعروبة حينا، أو بين الشرق والعروبة حينا، لننظر بعد ذلك في أصل ما يدعيه هؤلاء القائلون من انسياح العرب في تلك الأقطار المستعربة بتعريب الإسلام، وأنها صارت إلى عروبة موحدة، يصح بعدها أن يؤرخ أدبها الواحد، على أنه كائن عربي متماسك، لا ينظر في جزء منه إلى إقليميته، ولا يقدر فيه أثر بيئته. •••
ننظر في هذه الدعوى بعد أن جردناها من الاستظهار بالعاطفة الدينية في الجمع بين الإسلام والعربية، وبعد أن أبعدناها عن السياسة، في اعتبار الشرق هو العروبة والعروبة هي الشرق، ننظر فيها بعد ذلك كله، غير منكرين مطلقا أن هذه الحركة الدينية التي دفع الإسلام إليها الحياة الإنسانية بقيامه وامتداد دولته، حركة كانت إنسانية وكانت تمدينية تمتاز عن غيرها من الفتح والتمدين، بأنها كانت صاحبة رسالة حضارية، ودعوة إصلاح اجتماعي. وقد يقوم الفتح على رغبة التوسع وحب السيطرة وحق القوة، فيختلف بذلك في نشاطه وفي نظر الناس له، وفي قبولهم لدولته، عن مثل هذا الفتح ذي الرسالة والدعوة، وبذلك يكون لهذا الأخير ما له من الميزة، والفروق في سيره وسرعته، ومدى نجاحه، وما إلى ذلك، فيظفر بما يفترق به عن غيره، لكن دون أن يكون ذلك أعجوبة لم تجر على ناموس، أو معجزة لم تنطبق على سنة، ولا يضبطها قانون.
ناپیژندل شوی مخ