فيصل الاول: سفرونه او تاريخ
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
ژانرونه
كنت أشعر، وفي القلب انكماش، بأننا عدنا إلى الحرب العظمى ندرس الخرائط، ونتبع حركات الجيوش. بعد أن رسم الملك الخطة على خارطته قال: «ولك أن تسأل عن الخبر الذي أقلقني وحرمني النوم منذ يومين؛ في الساعة السابعة مساء، جاءتنا برقية تقول إن جنودنا نحو ألفين تقدموا في مضيق زازوك - ها هو - واحتلوا القرية، ولكن البرقية التي وصلتنا في صباح اليوم التالي تقول إن العصاة استولوا على الحملة، وإن المكارين خلصوا بغالهم، بعد أن تركوا أحمالها للعصاة وفروا هاربين، ثم جاء في البرقية الثالثة الخبر الأسوأ؛ عاد رجالنا ليخلصوا الحملة فوجدوا رجال الشيخ في الأماكن التي كانوا قد أخلوها؛ أي إن العصاة استولوا على قمم الجبال، وبات جيشنا في الوادي بخطر، كأنه في شرك، ومنذ ذاك الحين ما جاءنا خبر. تصور حالتي يا أمين، هل محق الجيش، وما بقي واحد منه يبعث إلينا بالخبر؟ ما نمت والله الليلة البارحة، وفي هذا النهار كله، في هذه الساعات السود، تراني أحاول الابتسام وأستقبل الضيوف وأستمر في العمل، كأن الأمور في أحسن حال، هذا شغل الملك يا أمين، ومن يغبطني عليه؟! وإنما الله سبحانه وتعالى يمدنا بالصبر والقوة، لنظل واقفين على الأقل موقف الدفاع في هذه الحياة، ويفتح لنا من حين إلى حين باب الفرج، كما فعل الآن سبحانه وتعالى؛ فقد انتصر جيشنا على العصاة، واسترد القسم الأكبر من الحملة.»
لقد حاولت في هذا الفصل أن أقدم للقارئ صورا قلمية تجمع بين الظاهر وبعض ما تراءى لي من الباطن، فيحيط بمناقب الملك فيصل إذا ما تأملها، ويدرك شيئا من السر في عظمته، لا يمكنني أن أقول إن هذه العظمة كانت كامنة فيه حتى في تلك الأيام التي انتهت بنكبة دمشق، ولا أقول إنها ثمرة التجارب والمحن، فإن رأس السر في العظمة البشرية لا يزال غامضا.
بيد أن في قصصه وأخباره منافذ للنظر لا تنكر قيمتها، ولا يخفى جمالها، وسأختم هذا الفصل بما أحسبه أجمل هذه القصص؛ فهي تريك نفس فيصل في جمالها واتضاعها، في صدقها وسلامة طبعها، في حالتي الكدر والسرور. سألت الملك ذات ليلة أن يخبرني بما يحسبه أشأم أيامه وأسعدها في عهده العراقي؛ أما أشأم الأيام يوم الجراحة ومجيء السر برسي كوكس بذلك الأمر ليمضيه - الأمر بنفي الزعماء الوطنيين - فقد أسلفت ذكره في الفصل الرابع، وهاك قصة أسعد الأيام: «كنا في الأستانة نذهب مع الوالد لنسلم على السلطان، فندخل ردهة العرش مكتفين محنيي الرءوس، فنجثو أمام الباديشاه ونقبل يده، ثم نرجع بضع خطوات مواجهين العرش، ونقف ساكتين، وبعد ذلك نخرج كما دخلنا، والقلوب تنبض بالخوف - والله - والخشوع. ولت الأيام، وولى السلطان، حاربنا الأتراك وانتصرنا عليهم، ثم رجعت إلى الأستانة وأنا ملك العراق، وعندما وصلنا إلى حيدر باشا قادمين من أنقرة، كان في انتظارنا عند المرسى مركب بخاري، هو اليخت الذي كان للباديشاه، فأقلنا إلى غلطة.
وعندما نزلنا في الشاطئ الأوروبي، رحنا نزور القصر، قصر طولمه بغجه، القصر الذي كنا ندخله خائفين مرتعبين، بين صفوف من الجند، لنقف مثل العبيد أمام الباديشاه، فدخلناه هذه المرة بسلام، وكانت الأروقة والقاعات كلها خالية خاوية. أما ردهة العرش، فقد هالني فراغها عندما وقفت في الباب، ولكن العرش، العرش الفارغ المهجور، لا يزال فيها. فمشيت إليه هذه المرة بخطوات ثابتة، وصعدت درجاته سامد الرأس، وجلست في الكرسي! وكان سروري والله عظيما، فحمدت الله رب العروش، مشيدها وهادمها، وقلت لنفسي: لقد أدركت ثأرك اليوم.»
نحن وهارون الرشيد1
وكان الناس محتشدين حول الساعة العظيمة - الأعظمية - التي صنعها أحد أبناء البلدة المشرفة باسم الإمام الأعظم؛
2
لتعرض في معرض الزراعة والصناعة ببغداد، وكانت الساعة قائمة في باحة المعرض الكبرى، فوق قاعدة عالية من الحديد، وهي تردد نبأ الزمان - أيامه وساعاته ودقائقه - وتبشر العراق بعهد جديد.
والناس متلعون، والعيون منهم محدقة، بهذا الأثر الصناعي العربي البغدادي الأعظمي، والكل معجبون به، هذه الساعة مفخرة المعرض، بل مفخرة العراق. ومن ذا الذي يقول إن العقل العربي عقيم لا يحسن الاختراع، إنها بيت القصيد في هذا المعرض. وقد قال أحد الشعراء: إن صانعها عبقري متحدر من أجداد عبقريين. وقال الآخر: وما أدراك، قد يكون من سلالة ذلك العربي الذي صنع الساعة التي أهداها الخليفة هارون الرشيد إلى عاهل الفرنجة شارلمان.
إنه لشاعر بعيد الخيال، ولكنه ما علم أن الخليفة هارون الرشيد كان في تلك الساعة واقفا مثله، وقريبا منه، بين المتفرجين. وقد كان مع الخليفة شاعره أبو النواس، والملك فيصل، وكاتب هذه السطور.
ناپیژندل شوی مخ