فيصل الاول: سفرونه او تاريخ
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
ژانرونه
نظرت تلك الحكومة في الاقتراحات نظرة جديدة، فبدت لها هذه المرة في غير وجهها السابق، أو بالحري بدأت ترى ما فيها من العدل والإنصاف، والحكمة الناضجة. وقد تيقنت أن العراق تقدم تقدما يذكر خلال السنوات الخمس، فظهر التحسن خصوصا في إدارته المالية وفي الأمن العام؛ لذلك كان جوابها صريحا جليا مقنعا؛ فقد تضمن الوعد الشافي غير المقيد بشرط ما أن ترشح العراق للعضوية في عصبة الأمم في عام 1932، وأن تعلم مجلس العصبة بذلك في جلسته المقبلة، كما أنها قررت العدول عن المعاهدة 1927.
على أن الأقدار - وا أسفاه! - قضت بألا يرى السر غلبرت كلايتون نتيجة سعيه الأول في سبيل العراق وبريطانيا، فقد صرم حبل حياته قبل أن يجتاز المرحلة الأولى من المشروع الذي تصوره لنفسه؛ مات فجأة في بغداد، وهو في الخامسة والخمسين من سنه، مات في 11 أيلول قبل أن يصل الجواب من لندن بثلاثة أيام.
قد يصح أن نقول إن السر غلبرت كلايتون لم يكن أكثر علما بالعرب والبلاد العربية من أسلافه، ولكن علمه كان مشفوعا بالعقل الفاعل. أما حبه للعرب فما كان مبنيا على مجرد العواطف، كما هو عند بعض المستعربين، ولا كان مقيدا بالمصالح الشخصية أو الوطنية أو الدينية كما عند البعض الآخر، بل كان مرتكزا على العطف الشريف، وكان فوق ذلك مشربا بروح الحكمة التي أشرت إليها فيما نقلته من كلامه، كان صادقا نزيها، كما كان حرا كريما، بعث في النفوس الثقة، وباصطلاح المقامر كان يلعب على المكشوف، له جرأة في الثبات على يقينه والإفصاح عنه، وله مع اليقين مثل أعلى ما خشي أن يستهدف من أجله. قال المؤرخ طونبي:
2 «لقد كان فوزه باهرا في المدة القصيرة، في الستة أشهر، التي تولى فيها أعمال الانتداب، فطبع تاريخ العلاقات البريطانية العراقية بطابعه، وأدخل العراق في طور التحسن الدائم.»
لا نكران أن تطور الأحوال أسعف مسعاه، ولا يفوتنا أن نذكر أن سلفه السر هنري دوبس اقترح على وزارة المستعمرات اقتراحا شبيها باقتراحه، بيد أن مرجع الأول كان وزارة عمال تجنح ضمن دائرة معلومة إلى البدع السياسية، ومرجع الثاني وزارة محافظة، رأسها يابس وقلبها متحجر.
وهناك فرق آخر، كان السر هنري دوبس في جرأته السياسية والأدبية يسير إلى حد ولا يتعداه، فيعرب عن آرائه بصفته الرسمية لحكومته ولا يجهر بها في البلاد التي اضطربت شئونها في عهده. وإني على يقين أن مجمل أمره كان بيده لا بيد الوزارة في لندن، ولكنه تغلب على كثير من الصعوبات، وذلل الكئود من العقبات، لو أنه صارح العراقيين، ورعى لهم الكرامة القومية. إن المقارنة تسيء في بعض الأحيان وتجرح، ولكني حبا بإظهار ما حسن من نياته أنقل ما يلي من كلامه:
3 «رفعت مطالبهم (الضمير يرجع إلى العراقيين) بكاملها إلى الحكومة البريطانية، وقد كنت أميل إلى الاعتقاد أن لا ضرر للمصالح البريطانية ولا للمصالح العراقية، إذا عقدت معاهدة معدلة تبطل أنواع الاستيلاء البريطاني الرسمي كلها، وقد أدركت منذ البدء أن الحكومة العراقية هي مخلصة في ولائها، ومقدرة للمشورة حق قدرها، اللهم إذا لم تجئها بصورة التحكم، وما شككت قط أنها تعمل بالمشورة راضية شاكرة، إذا ما جردت من الواجبات التي تفرضها المعاهدة، فإن خففت القيود الظاهرة، تمكنت القيود الحقيقية.»
الملك فيصل الأول وقد خط بيده كلمة الإهداء إلى المؤلف.
لو صرح السر هنري بهذه الآراء على صفحات الجرائد في بغداد بدل أن يبعث بها إلى وزارة المستعمرات لتخزن هناك، لسهل لنفسه سبيل العمل النافع لبلاده وللعراق؛ فقد كان - ولا مراء - إداريا قديرا حازما، بيد أنه زاد بمصاعبه وبنفور الناس منه، فيما كان من تدخله الجائز وغير الجائز، بأعمال الحكومة. وقد كان في بعض الأحايين، مستأثرا مستبدا، فيقف موقف الحاكم بأمره ليوطد «الاستيلاء الرسمي»، ليفرض «المشورة» فرضا، ليعطي «صورة التحكم» رهبتها، ليمكن «القيود الظاهرة» مهما كانت عرضية. أسموه في بغداد «الجبار» وهو عكس ما كان عليه السر غلبرت كلايتون قولا وعملا، فلا عجب إذا شكرت بغداد الله على رحيل الأول، واسترحمته تعالى للثاني.
حزن الملك فيصل لما نعي له السر غلبرت، وحزن لما جاء الجواب المرضي من حكومة لندن، ولا يستغرب إذا ما سبق الحزن الفرح إلى قلبه وهو كريم الشيم، رقيق الشعور، فعندما جاءه الجواب قال متأسفا: «لو أن الله أمد بأجل المندوب ليرى بعينه، قبل أن يغمضها الموت، قبول حكومته بما اقترحه من أجل العراق.»
ناپیژندل شوی مخ