مهمة الجمع بين أفلاطون وأرسطو، والإيمان والعقل، والأسطورة والعلم، والتوفيق بين هؤلاء جميعا وبين المسيحية.
وكان أرسطو قد سخر من قبول أفلاطون لنظرية الفيثاغوريين في انسجام الأفلاك، غير أن مفكري العصور الوسطى لم يكونوا على استعداد للتخلي عن هذه العلاقة المثيرة للخيال، بين الموسيقى وبين مجموعات الأفلاك الصداحة، وكذلك كان موقف خلفائهم طوال السبعمائة عام التالية. ولقد كان الدور الذي أسهم به الفيلسوف في تاريخ الموسيقى من القرن الثاني عشر إلى القرن الرابع عشر هو دور المدافع النظري عن اسمي أفلاطون وبويتيوس الموقرين. ومن الجائز أن المثقفين المسيحيين قد انقسموا على أنفسهم، في مجال اللاهوت، بين المثالية الأفلاطونية والنزعة الطبيعية الأرسططالية، ولكن لما كان أرسطو قد أخذ بآراء أفلاطون في الموسيقى، ورددها مع تعديلات طفيفة، فإن هذه الحقيقة قد أدت بأصحاب النزعة الإنسانية في العصور الوسطى إلى إبداء المزيد من الثقة والإيمان بصحة التفكير الجمالي اليوناني في ميدان القيم الموسيقية، بل إن مفكرا إنسانيا صريحا مثل أبيلار الذي كان الطلاب في باريس يرددون أغانيه الدنيوية التي ألفها في شبابه، قد وافق بوصفه رجل كنيسة، على رأي أوغسطين القائل إن المسيحي الصالح ينبغي عليه ألا يقرأ أشعار الوثنيين، أو يستمع إلى موسيقاهم، كذلك فإن فيلسوفا أرسططاليا مخلصا مثل بيكون
1
الذي كانت آراؤه في دور الموسيقى في التعليم تقدمية بلا جدال، وقد أصدر على التجديدات في الموسيقى الدينية أحكاما تشوبها روح التحمس للأفلاطونية.
والواقع إنه لم يتبق لنا الآن إلا القليل من الموسيقى الفعلية للعصور التي تسمى بالعصور المظلمة في العالم الغربي؛ ففي تلك المرحلة من الحضارة المسيحية كما هي الحال بالنسبة إلى الحضارة اليونانية، لا بد لنا من الاعتماد على الدراسات العلمية التي حفظها لنا التاريخ حتى الآن. أما الفترة الممتدة من القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس عشر، فإن ما تبقى لنا من موسيقاهم أكثر إلى حد ما، ولكن ما زال على الدارس الحديث للتاريخ أن يرجع في بحثه لأحوال الموسيقى، إلى دراسات الفلاسفة واللاهوتيين في العصر الوسيط، الذين كانوا في واقع الأمر فئة واحدة.
ومن المؤكد أنه لو لم يكن الباحثون الإسلاميون والعبرانيون قد حافظوا على كتابات اليونانيين لتضاءلت معرفتنا بالفلسفة والموسيقى القديمة إلى حد بعيد، ولقد كان المسيحي البيزنطي في الشرق الأدنى أكثر إلماما بفلسفة اليونانيين من المسيحي الغربي، كما أنه كان يعد نفسه شخصا أكثر ثقافة، وأرفع عقلا من نظيره في الغرب. غير أن الفتاوى التي كانت الكنيسة تصدرها عن الموسيقى كان لها تأثيرها في المسيحية بأسرها؛ فالكنيسة كانت تنظر إلى الموسيقى على أنها نوع من الإرشاد الديني، وكما أن هناك عقيدة واحدة لا تتزعزع، يتعين على المسيحية بأسرها أن تؤمن بها، فكذلك كان من الواجب أن تكون موسيقى الكنيسة الكاثوليكية واحدة لا تتغير.
ومن الجائز أن فلسفة اليونانيين لم تزدهر خلال قرون سيادة المسيحية هذه، غير أن تطور الموسيقى كان أسعد حظا دون شك ؛ فقد أدخل فن توزيع الأدوار الغنائية المختلفة في الصلاة الدينية عن طريق ارتجال لحن بسيط يغنى في مقابل إنشاد اللحن الجريجورياني الجاد. ومن هذه البداية المتواضعة صوتين كل منهما في مقابل الآخر نشأ فن البوليفونية، الذي كان بالنسبة إلى التطور التاريخي للموسيقى خطوة لا تقل في أهميتها عن اختراع «جويدو داريتسو» للتدوين الموسيقي. وإذن فالموسيقي في العصر الوسيط قد بدأ بإعطاء الموسيقى نظاما خاصا من علامات الأصوات، كان يشير أساسا إلى اتجاه اللحن. وكان العمل الثاني الذي أنجزه هو إدخال طريقة غناء الأسطر اللحنية المختلفة في الوقت الواحد، ومن الجائز جدا أن هذه الطريقة قد أخذت عن حضارات أخرى، ولكن الموسيقي الكنسي هو الذي نماها، وإن لم يكن ذلك قد حدث في كل الأحوال بطريقة يرضى عنها المدافعون عن العقيدة المتحمسون لها.
والبوليفونية هي موسيقى تكتب، بحيث تجمع بين لحنين أو أكثر يؤديان في وقت واحد بالصوت البشري أو الآلات أو بهما معا. وليس أصل الموسيقى البوليفونية معروفا، ومن هنا كان أقصى ما يستطيع مؤرخونا الموسيقيون أن يفعلوه هو التخمين بالمكان والزمان اللذين ظهرت فيهما هذه الموسيقى لأول مرة في العالم. ونحن نعلم أن الموسيقى اليونانية كانت مونوفونية؛ أي إنها كانت تتألف من سطر لحني واحد يعنى بمصاحبة الموسيقى. ومع ذلك فإن كتابات أفلاطون تتضمن إشارة إلى نوع محدد من الموسيقى، يغني فيه المغني نغمة، ويعزف بالآلة الموسيقية نغمة أخرى. ومن سوء الحظ أن أفلاطون لم يتوسع كثيرا في شرح هذه الطريقة الموسيقية القديمة، كما أننا لا نعرف مؤلفا آخر للفلاسفة اليونانيين تضمن إشارة إلى هذا الغناء المزدوج الأدوار، الذي يوحي بوجود نوع بدائي من البوليفونية. ولقد كان أفلاطون يشير إلى أنغام تعليم الليرا
lyre
عندما نصح المربين بتجنب التعقيد في الأنغام والإيقاعات على النحو الذي كان يشوه الموسيقى اليونانية في جمالها وبساطتها. وفي هذا الصدد قال: «وتبعا لهذا الرأي، ينبغي على المعلم والدارس أن يستخدما أصوات الليرا؛ لأن أنغامه صافية، بحيث يعزف المعلم وتلميذه نغمة مقابل نغمة في اتفاق صوتي
ناپیژندل شوی مخ