. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
وَالْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ تَسَاوٍ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّكْرِ الْعُرْفِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ لِصِدْقِ اللُّغَوِيِّ بِالنِّعْمَةِ فَقَطْ وَصِدْقِ الْعُرْفِيِّ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ كَذَلِكَ لِصِدْقِ الشُّكْرِ بِالثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ وَغَيْرِهِ وَصِدْقِ الْحَمْدِ الْمَذْكُورِ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَمَعْنَى الْوَجْهَيْنِ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَادَّةٍ بِجِهَتَيْ خُصُوصِهِمَا وَانْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ بِجِهَةِ عُمُومِهِ، وَمَعْنَى الْمُطْلَقِ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ بِجِهَةِ عُمُومِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النِّسَبَ الْمَذْكُورَةَ بَيْنَ الْحَمَدَيْنِ وَالشُّكْرَيْنِ وَالْمَدْحَيْنِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ بِحَسَبِ الْحَمْلِ وَبِحَسَبِ التَّحَقُّقِ وَالْوُجُودِ إلَّا النِّسْبَةَ بَيْنَ الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ وَالشُّكْرِ الِاصْطِلَاحِيِّ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَصِحُّ بِحَسَبِ التَّحَقُّقِ وَالْوُجُودِ لَا بِحَسَبِ الْحَمْلِ، إذْ لَا يَصِحُّ حَمْلُ الثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ إلَخْ عَلَى صَرْفِ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ وَلَا عَكْسِهِ، وَلَكِنْ كُلَّمَا وُجِدَ صَرْفُ الْعَبْدِ إلَخْ يُوجَدُ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ بِلَا عَكْسٍ.
١ -
(تَتِمَّةٌ) تَشْتَمِلُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَمْدِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ انْقِسَامِهِ إلَى قَدِيمٍ وَهُوَ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ بِكَلَامِهِ، وَحَادِثٍ وَهُوَ ثَنَاءُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَهُوَ انْقِسَامُهُ إلَى مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ، فَالْمُطْلَقُ هُوَ الْحَمْدُ عَلَى مُجَرَّدِ الذَّاتِ نَحْوُ الْحَمْدِ لِلَّهِ، وَالْمُقَيَّدُ هُوَ الْحَمْدُ لِلذَّاتِ لِأَجْلِ شَيْءٍ نَحْوُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّازِقِ، أَوْ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي الْأَفْضَلِ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ مَالِكٌ أَنَّ الْمُقَيَّدَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُطْلَقِ، بِالْإِثْبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُقَيَّدِ بِالنَّفْيِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةَ أَفْضَلُ مِنْ السَّلْبِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْمُقَيَّدِ كَثْرَةُ وُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ وَلِأَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ وُقُوعُهُ فِي مُقَابِلَةِ نِعْمَةٍ، وَفَضْلُ الثَّنَاءِ نَفْيُ الْمُطْلَقِ لِصِدْقِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي أَفْضَلِ الْمَحَامِدِ فَقِيلَ أَفْضَلُهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ بِجَمِيعِ مَحَامِدِهِ كُلِّهَا مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ كُلِّهَا مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: عَدَدَ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ مَا عَلِمْت مِنْهُمْ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ وَقِيلَ أَفْضَلُهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي، نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، لِمَا وَرَدَ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَ آدَمَ ﵇ إلَى الْأَرْضِ قَالَ: يَا رَبِّ شَغَلْتنِي بِكَسْبِ يَدِي فَعَلِّمْنِي شَيْئًا فِيهِ مَجَامِعُ الْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ قُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عِنْدَ كُلِّ صَبَاحٍ وَعِنْدَ كُلِّ مَسَاءٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، فَقَدْ جَمَعْت لَك فِيهَا جَمِيعَ الْمَحَامِدِ» .
وَقِيلَ أَفْضَلُ الصِّيَغِ: اللَّهُمَّ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي بِرِّ مَنْ حَلَفَ لَيُثْنِيَنَّ عَلَى اللَّهِ بِأَفْضَلِ الثَّنَاءَاتِ وَالْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي بِرِّهِ بِالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِهَا، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَفْضَلُ مَا قُلْته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، لِأَنَّ هَذَا بِالنَّظَرِ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحَمْدُ يَقَعُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، بِخِلَافِ الشُّكْرِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى السَّرَّاءِ، وَحُكْمُ الْحَمْدِ الْوُجُوبُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً بِقَصْدِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ كَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَوْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ الْأَصْلِيِّ، وَمَا زَادَ عَلَى الْمَرَّةِ فَمُسْتَحَبٌّ، وَوَصَفَ مَدْلُولَ لَفْظِ الْجَلَالَةِ بِقَوْلِهِ: (الَّذِي) اسْمٌ مَوْصُولٌ صِلَتُهُ (ابْتَدَأَ) أَيْ أَوْجَدَ جَمِيعَ أَفْرَادِ (الْإِنْسَانِ) مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مِثَالٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ مِنْ الْبَشَرِ الشَّامِلِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ التَّأَنُّسِ، وَأَمَّا عَلَى أَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ نَاسَ يَنُوسُ إذَا تَدَلَّى وَتَحَرَّكَ فَلِيَشْمَلَ الْجِنَّ، فَأَلْ فِي الْإِنْسَانِ لِلِاسْتِغْرَاقِ الشَّامِلِ لِآدَمَ وَعِيسَى ﵉، وَيَكُونُ قَوْلُهُ الْآتِي: وَصَوَّرَهُ فِي الْأَرْحَامِ رَاجِعًا لِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُصَوَّرْ فِي رَحِمٍ وَكَثِيرًا مَا يُذْكَرُ الْعَامُّ، وَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] إلَى قَوْلِهِ: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] فَإِنَّ ضَمِيرَ الْمُطَلَّقَاتِ عَامٌّ وَضَمِيرَ بُعُولَتِهِنَّ خَاصٌّ بِالرَّجْعِيَّاتِ، وَبَدَأَ بِالْهَمْزِ وَابْتَدَأَ بِمَعْنًى، وَأَيْضًا الْمُصَنِّفُ لَمْ يَقْصِدْ الْإِتْيَانَ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ وَلَا بِمَعْنَاهُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَةِ رِوَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُتَعَبَّدُ بِلَفْظِهِ، وَالْوَصْفُ هُنَا كَاشِفٌ؛ لِأَنَّ الْخَالِقَ وَالْمُبْتَدِئَ لَيْسَ إلَّا اللَّهُ، قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٣] فَالْأَوَّلُ آدَم وَالثَّانِي ذُرِّيَّتُهُ، لَكِنَّ غَيْرَ عِيسَى خُلِقَ مِنْ مَاءِ الْأُمِّ وَالْأَبِ، وَأَمَّا عِيسَى فَإِنَّهُ مِنْ نُطْفَةِ أُمِّهِ فَقَطْ إذْ لَا أَبَ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ تَمَثَّلَ لَهَا بِصُورَةِ بَشَرٍ شَابٍّ أَمْرَدَ حَسَنِ الصُّورَةِ لِشِدَّةِ اللَّذَّةِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ فَنَزَلَ الْمَاءُ مِنْهَا إلَى الرَّحِمِ فَتَوَلَّدَ عِيسَى ﵇ بِمُجَرَّدِ النَّفْخَةِ الْمُوجِبَةِ لِلَّذَّةِ مِنْهَا، فَهُوَ مِنْ نُطْفَةِ أُمِّهِ فَقَطْ قَالَهُ الْحَلَبِيُّ.
وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الطَّبَائِعِيِّينَ فِي إنْكَارِهِمْ وُجُودَ مَوْلُودٍ مِنْ مَاءِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُفَسِّرِ بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَرْيَمَ حِينَ قَوْلِهَا: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا - قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ [مريم: ٢٠ - ٢١] بِأَنْ يَنْفُخَ - بِأَمْرِي - جِبْرِيلُ فِيكِ فَتَحْمِلِي بِهِ، فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ مَائِهَا وَحَرَّرَهُ وَصِلَةُ ابْتَدَأَ. (بِنِعْمَتِهِ) تَعَالَى وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِنِعْمَتِهِ فَقِيلَ قُدْرَتُهُ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ
1 / 11