موعظة الأوزاعي للمنصوري رضي الله عنهما:
26 - قرئ على أبي علي الحسن بن أحمد بن شاذان وأنا أسمع، قال: أنبأ أبو محمد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم الخراساني، ثنا أحمد بن عبيد بن ناصح أبو جعفر، ثنا محمد بن مصعب القرقساني، حدثني الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو، قال: بعث إلي أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين قال: أريد الأخذ عنكم، والاقتباس منكم، قال: فانظر يا أمير المؤمنين ألا تجهل شيئا مما أقول لك، قال: فكيف أجهله، وأنا أسألك عنه، وفيه وجهت إليك وأقدمتك له قلت: أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به، قال: فصاح بي الربيع، وأهوى بيده إلى السيف، فانتهره المنصور وقال هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة، فطابت نفسي، وانبسطت في الكلام، فقلت يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه، فإنها نعمة من الله سيقت إليه، فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثما، ويزداد الله بها سخطا عليه يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما وال مات غاشا لرعيته حرم الله عليه الجنة يا أمير المؤمنين من كره الحق، فقد كره الله؛ إن الله هو الحق المبين يا أمير المؤمنين، إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان بهم رءوفا رحيما مواسيا بنفسه لهم في ذات يده وعند الناس فحقيق بك أن تقوم له فيهم بالحق، وأن تكون بالقسط له فيهم قائما، ولعوراتهم ساترا لا تغلق عليك دونهم الأبواب، ولا تقيم دونهم الحجاب، تبتهج بالنعمة عندهم، وتبتئس لما أصابهم من سوء (ق17ب) يا أمير المؤمنين قد كنت في شغل شاغل في خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم أحمرهم وأسودهم، مسلمهم وكافرهم، وكل له عليكم يصيب من العدل، فكيف بك إذا انبعث منهم فئام وراء فئام، وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها ويروع بها المنافقين، فأتاه جبريل فقال له يا محمد ما هذه الجريدة التي كسرت بها قلوب أمتك وملأت قلوبهم بها رعبا، فكيف بمن شقق أستارهم، وسفك دماءهم، وخرب ديارهم وأجلاهم عن بلادهم، وغيبهم الخوف منه يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابيا لم يتعمده، فأتاه جبريل فقال يا محمد إن الله لم يبعثك جبارا ولا متكبرا؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي فقال اقتص مني، فقال الأعرابي قد أحللتك بأبي أنت وأمي، وما كنت لأفعل ذلك أبدا، ولو أتيت على نفسي، فدعا له بخير يا أمير المؤمنين، رض نفسك لنفسك، وخذ لها الأمان من ربك، وارغب في جنة عرضها السموات والأرض التي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيد قوس أحدكم في الجنة خير له من الدنيا وما فيها، يا أمير المؤمنين، إن الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك وكذا لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك، يا أمير المؤمنين أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} قال الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك فكيف بما عملته الأيدي وحصدته الألسن يا أمير المؤمنين، بلغني أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك يا أمير المؤمنين أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك! {يا داود إنا جعلناك خليفة (ق18أ) في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} قال: يا داود إذا قعد الخصمان بين يديك فكان لك في أحدهما هوى فلا تتمنين في نفسك أن يكون الحق له فيفلح على صاحبه فأمحوك عن نبوتي، ثم لا تكون خليفتي ولا كرامة، يا داود إنما جعلت رسلي إلى عبادي رعاء كرعاء الإبل لعلمهم بالرعاية، ورفقهم بالسياسة، ليجبروا الكسير، ويدلوا الهزيل على الكلأ والماء، يا أمير المؤمنين إنك قد بليت بأمر لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه، يا أمير المؤمنين، حدثني يزيد بن جابر، عن عبد الرحمن بن عمرة الأنصاري، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استعمل رجلا من الأنصار على الصدقة، فرآه بعد أيام مقيما، فقال: له ما منعك من الخروج إلى عملك أما علمت أن لك مثل أجر المجاهد في سبيل الله قال: لا، قال: وكيف ذلك، قال: إنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من وال يلي شيئا من أمور الناس إلا أتى به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه فيوقف على جسر من النار، وينتفض به ذلك الجسر انتفاضة تزيل كل عضو منه عن موضعه، ثم يعاد فيحاسب فإن كان محسنا نجا بإحسانه وإن كان مسيئا انخرق به ذلك الجسر فيهوى به في النار سبعين خريفا فقال له عمر رضي الله عنه: ممن سمعت هذا، قال: من أبي ذر وسلمان، فأرسل إليهما عمر فسألهما فقالا : نعم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر واعمراه من يتولاها بما فيها فقال أبو ذر رضي الله عنه من سلت الله أنفه وألصق خده بالأرض، قال: فأخذ المنديل فوضعه على وجهه ثم بكى وانتحب حتى أبكاني، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، قد سأل جدك العباس النبي صلى الله عليه وسلم إمارة على مكة والطائف أو اليمن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا عباس يا عم النبي نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها، نصيحة منه لعمه وشفقة عليه وأخبره أنه لا يغنى عنه من الله شيئا إذ أوحى الله إليه! {وأنذر عشيرتك الأقربين} (ق18ب) فقال: يا عباس، ويا صفية عمي النبي، ويا فاطمة بنت محمد إني لست أغني عنكم من الله شيئا إن لي عملي ولكم عملكم. وقد قال عمر بن الخطاب: لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل أريب العقد لا يطلع منه على عورة، ولا يخاف منه على حرة، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وقال: السلطان أربعة: فأمير قوي ظلف نفسه وعماله فذلك كالمجاهد في سبيل الله يد الله باسطة عليه بالرحمة، وأمير ضعيف ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله، وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم شر الرعاة الحطمة فهو الهالك وحده، وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعا. وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتيتك حين أمر الله بمنافخ النار فوضعت على النار تسعر ليوم القيامة، فقال له: يا جبريل صف لي النار، فقال: إن الله تعالى أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا يطفأ لهبها، والذي بعثك بالحق لو أن ثوبا من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعا، ولو أن ذنوبا من شرابها صب في مياه الأرض جميعا لقتل من ذاقه، ولو أن ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعا لذابت وما استقلت، ولو أن رجلا أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، وبكى جبريل لبكائه، فقال: أتبكي يا محمد وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: أفلا أكون عبدا شكورا، ولم بكيت يا جبريل، وأنت الروح الأمين أمين الله على وحيه، قال: أخاف أن أبتلي بما ابتلي به (ق19أ) هاروت وماروت فهو الذي منعني من اتكالي على منزلتي عند ربي فأكون قد أمنت مكره، وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن عمر بن الخطاب قال اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من مال الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين، يا أمير المؤمنين إن أشد الشدة القيام لله بحقه وإن أكرم الكرم عند الله التقوى وأنه من طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه، فهذه نصيحتي إليك والسلام عليك، ثم نهضت، فقال لي: إلى أين فقلت إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله، فقال: قد أذنت لك وشكرت لك نصيحتك وقبلتها والله الموفق للخير، والمعين عليه، وبه أستعين، وعليه أتوكل، وهو حسبي ونعم الوكيل، فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثلها؛ فإنك المقبول القول غير المتهم في النصيحة قلت: أفعل إن شاء الله، قال محمد بن مصعب فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله وقال أنا في غنى عنه، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من الدنيا، وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك.
مخ ۲۵