وحملت العدد النواكب على المناكب. وخفت للأثقال أكتاف الفتاك، وهتكت ستائر السور فوهت إشراك الإشراك.
ودام القتال اياما، يتضاعف اصطلاء واصطلاما، ويتظاهر اضطرابا واضطراما. وبنات الحنايا هائجة، وأمات المنايا ناتجة. ورجمت بشهب النفاطات شياطين الداوية المردة، وتعادت الأسود العادية على أولئك القردة. حتى خرق الخندق وطرق، وعلق النقاب بالسور فنقب وعلق.
وكاد النقب يتسع، والبرج يقع. والجدار ينقض، والحجار بالحجار تنفض وترفض. وسوار السور ينكسر، وقناع النقع لا ينحسر.
وخرج من البلد رجال، إلى الموت عجال. وقفوا دون الباشورة مباشرين، ولمعاشر أصحابنا بمعاطات كؤوس المنون معاشرين. فلاقوا بسلام السلام. وكلام الكلام. وتصافحوا بالصفائح، وتجاروا بالجرائح وتواصلوا بالقواطع، وتعانقوا بالمقامع، وتصارعوا على المصارع. وتجلدوا وتجالدوا، وتواقحوا وتعاقروا وتقارعوا. والبيض يقد، والبيض تقد. والباسل يرد، والبأس يرد. والصقيل
الصادي يصدأ بالدم ويروى، وحزب الكفر يضعف وحزب الإسلام يقوى.
ثم انحصروا في البلد، وانحشروا على اللدد. وضافهم الرعب، وضاق بهم الرحب. وذلوا وخاروا، وضلوا وحاروا. ولما خاب المقاتلة وخذلوا، ظن أهل بيروت أن المسلمين دخلوا. فأجفلوا إلى البحر إذ عدموا سكينتهم، ليركبوا سفينتهم، ويخلوا مدينتهم.
فخرج أحد المقدمين يستدعى الامان، ويستعدى الإيمان. ويطلب مثالا يعصمهم، وذماما يحرمهم. وعهدا يسلمون به ويسلمهم، وعقدا في عقد الأمن ينظمهم. وكنت يومئذ في مرض قد أزعجني وأعجزني، ومضض أخفاني ولعيون العواد أبرزني. وانقطعت عن الحضور عند السلطان، وضعفت عن تحرير كتاب الأمان. فطلب السلطان كل كاتب في ديوانه. وكل من يمسك قلما من أفاضل الملك وأعيانه. فلم يرضه ما كتبوه، ولم يكفه ما رتبوه. فجاءني في تلك الحالة من استملاه مني، ومرضت أذهان الأصحاء ولم يمرض ذهني. فتسلم بيروت بخطى، وأصبحوا وأنا الآخذ والمعطي.
وكان الناس قد أنسوا لما أسطره وتزبره، وانسوا سوى ما أذكره وأجره. وألفوا الصحة فيه فألفوه، ولقوا السقم في غيره فانفوه. فلم يكن في ذلك التوقيع تعويق، بل كله بتوفيق من الله توثيق. فما فتح فتح إلا بمفتاحه ولا رتق فتق إلا بإصلاحه. ولا جلى ظلام إلا بإصباحه، ولا ورى زند إلا باقتداحه.
وكانت يومئذ جمرة الحر متوهجة، ووقدة القيظ متأججة. وضرم مرضى ملتهبا، وروح روحي منهبا. وبقيت مضطرا مضطربا، ولقيت من ذلك الوصب نصبا.
1 / 61