130

فتح القدير

فتح القدير

خپرندوی

دار ابن كثير،دار الكلم الطيب - دمشق

د ایډیشن شمېره

الأولى

د چاپ کال

١٤١٤ هـ

د خپرونکي ځای

بيروت

دعوت الله حتّى خفت ألّا ... يَكُونَ اللَّهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ أَيْ: يَقْبَلُ، وَقَوْلُهُمْ فِي الْجَوَابِ: سَمِعْنا هُوَ عَلَى بَابِهِ وفيه مَعْنَاهُ أَيْ: سَمْعِنَا قَوْلَكَ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ وَعَصَيْنَاكَ أَيْ: لَا نَقْبَلُ مَا تَأْمُرُنَا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ: سَمِعْنا مَا هُوَ مَعْهُودٌ مِنْ تَلَاعُبِهِمْ وَاسْتِعْمَالِهِمُ الْمُغَالَطَةَ فِي مُخَاطَبَةِ أنبيائهم، وذلك بأن يحملوا قوله تعالى: اسْمَعُوا عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، أَيِ: السَّمَاعِ بِالْحَاسَّةِ. ثُمَّ أَجَابُوا بِقَوْلِهِمْ: سَمِعْنا أَيْ: أَدْرَكْنَا ذَلِكَ بِأَسْمَاعِنَا عَمَلًا بِمُوجَبِ مَا تَأْمُرُ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كانوا يعلمون أن هذا غير مراد الله ﷿، بَلْ مُرَادُهُ بِالْأَمْرِ بِالسَّمَاعِ: الْأَمْرُ بِالطَّاعَةِ وَالْقَبُولِ، لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذِهِ الْمُغَالَطَةِ، بَلْ ضَمُّوا إِلَى ذَلِكَ مَا هُوَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمْ، فَقَالُوا: وَعَصَيْنا وَفِي قَوْلِهِ: وَأُشْرِبُوا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَيْ: جُعِلَتْ قُلُوبُهُمْ لِتَمَكُّنِ حُبِّ الْعِجْلِ مِنْهَا كَأَنَّهَا تَشْرَبُهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْدَ حُبٍّ دَاخِلٍ ... وَالْحُبُّ تُشْرِبُهُ فُؤَادَكَ دَاءُ وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حُبِّ الْعِجْلِ بِالشُّرْبِ دُونَ الْأَكْلِ، لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ يَتَغَلْغَلُ فِي الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام يجاورها وَلَا يَتَغَلْغَلُ فِيهَا، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِكُفْرِهِمْ سَبَبِيَّةٌ أَيْ: كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ وَخُذْلَانًا. وَقَوْلُهُ: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ أَيْ: إِيمَانُكُمُ الَّذِي زَعَمْتُمْ: أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ، وَتَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ، فَإِنَّ هَذَا الصُّنْعَ وَهُوَ قَوْلُكُمْ: سَمِعْنا وَعَصَيْنا فِي جَوَابِ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فِي كِتَابِكُمْ، وَأُخِذَ عَلَيْكُمُ الْمِيثَاقُ بِهِ، مُنَادٍ عَلَيْكُمْ بِأَبْلَغِ نِدَاءٍ، بِخِلَافِ مَا زَعَمْتُمْ، وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْكُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَنُزُولِ حُبِّهِ مِنْ قُلُوبِكُمْ مَنْزِلَةَ الشَّرَابِ، هُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّكُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِكُمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا لَا صَادِقُونَ، فَإِنْ زَعَمْتُمْ: أَنَّ كِتَابَكُمُ الَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ أَمَرَكُمْ بِهَذَا، فَبِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ بِكِتَابِكُمْ، وَفِي هَذَا مِنَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ مَا لَا يَخْفَى. وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ هُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يُشَارِكُهُمْ فِي دُخُولِهَا غَيْرُهُمْ، وَإِلْزَامٌ لَهُمْ بِمَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى، وأنها صادرة منهم لا عن برهان، وخالِصَةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَيَكُونُ خَبَرُ كَانَ هُوَ: عِنْدِ اللَّهِ، أَوْ يَكُونُ خَبَرُ كَانَ هُوَ: خَالِصَةً، وَمَعْنَى الْخُلُوصِ: أَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ إِذَا كَانَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ النَّاسِ لِلْجِنْسِ، أَوْ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ، إِنْ كَانَتِ اللَّامُ لِلْعَهْدِ. وَهَذَا أَرْجَحُ لِقَوْلِهِمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُودًا أَوْ نَصارى «١» وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِتَمَنِّي الْمَوْتِ، لِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، كَانَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْحَيَاةِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مُجَرَّدَ دَعْوَى أَحْجَمُوا، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا وَ«مَا» فِي قَوْلِهِ: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: بِمَا قَدَّمَتْهُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي يَكُونُ فَاعِلُهَا غَيْرَ آمِنٍ مِنَ الْعَذَابِ، بَلْ غَيْرُ طَامِعٍ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ قَاطِعًا بِهَا، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا خَالِصَةً لَهُ مُخْتَصَّةً بِهِ، - وَقِيلَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ صَرَفَهُمْ عَنِ التَّمَنِّي لِيَجْعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِنَبِيِّهِ ﷺ. وَالْمُرَادُ بِالتَّمَنِّيِ هُنَا: هُوَ التَّلَفُّظُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَا مُجَرَّدُ خُطُورِهِ بِالْقَلْبِ وَمَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُرَادُ فِي مَقَامِ الْمُحَاجَّةِ، وَمُوَاطِنِ الْخُصُومَةِ، وَمَوَاقِفِ التَّحَدِّي، وَفِي تَرْكِهِمْ لِلتَّمَنِّيِ أَوْ صَرْفِهِمْ عَنْهُ مُعْجِزَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَسْلُكُونَ مِنَ التَّعَجْرُفِ وَالتَّجَرُّؤِ عَلَى اللَّهِ

(١) . البقرة: ١١١.

1 / 134