أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ وفي الآيتين ونظائرهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافا للمبتدعة١. وفيهما الإيمان بالمعاد.
ولهما في حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " ٢.
وقوله: " أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " هذه الجملة جواب الشرط. وفي رواية: "أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء". قال الحافظ: معنى قوله: "على ما كان من العمل" أي من صلاح أو فساد؛ لأن أهل التوحيد لا بد لهم من دخول الجنة. ويحتمل أن يكون معنى قوله: "على ما كان من العمل" أن يدخل أهل الجنة على حسب أعمال كل منهم في الدرجات.
قال القاضي عياض: ما ورد في حديث عبادة يكون مخصوصا لمن قال ما ذكره صلي الله عليه وسلم وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه، فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته، ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة.
قال: "ولهما في حديث عتبان:
" فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله "".
قوله: "ولهما" أي البخاري ومسلم في صحيحيهما بكماله. وهذا طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان ٣.
_________
١ في قرة العيون: ومن لم يؤمن بالجنة والنار فقد كفر بالقرآن والرسل؛ فإن الله تعالى بين الجنة وما أعد فيها من النعيم المقيم، وذكر أنها دار المتقين، وذكر النار وما فيها من العذاب وأنه أعدها لمن كفر به وأشرك.
٢ البخاري: الصلاة (٤٢٥)، ومسلم: الإيمان (٣٣) .
٣ في قرة العيون: اختصره المصنف وذكر منه ما يناسب الترجمة وهو قوله: "من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" وهذا هو حقيقة معناها الذي دلت عليه هذه الكلمة من الإخلاص ونفي الشرك، والصدق والإخلاص متلازمان لا يوجد أحدهما بدون الآخر، فإن لم يكن مخلصا فهو مشرك ومن لم يكن صادقا فهو منافق، والمخلص أن يقولها مخلصا الإلهية لمن لا يستحقها غيره وهو الله تعالى، وهذا التوحيد هو أساس الإسلام الذي قاله الخليل ﵇: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) . وقالت بلقيس: (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) . وقال الخليل ﵇: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) . والحنيف: هو الذي ترك الشرك رأسا وتبرأ منه وفارق أهله وعاداهم، وأخلص أعماله الباطنة والظاهرة لله وحده، كما قال تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) فإسلام الوجه هو إخلاص العبادة المنافي للشرك والنفاق، وهو معنى الآية ونحوها إجماعا. فهذا هو الذي يعنيه قوله: (لا إله إلا الله)، ولهذا قال تعالى: (فقد استمسك بالعروة الوثقى)، وهذا بخلاف من يقولها وهو يدعو غير الله ويستغيث به من ميت أو غائب لا ينفع ولا يضر، كما ترى عليه أكثر الخلق، فهؤلاء وإن قالوها فقد تلبسوا بما يناقضها; فلا تنفع قائلها إلا بالعلم بمدلولها نفيا وإثباتا. والجاهل بمعناها وإن قالها لا تنفعه لجهله بما وضعت له الوضع العربي الذي أريد منها من نفي الشرك، وكذلك إذا عرف معناها بغير تيقن له، فإذا انتفى اليقين وقع الشك. ومما قيدت به في الحديث قوله ﷺ: "غير شاك" فلا تنفع إلا من قالها بعلم ويقين لقوله: "صدقا من قلبه، خالصا من قلبه" وكذلك من قالها غير صادق في قوله. فإنها لا تنفعه لمخالفة القلب اللسان كحال المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وكذلك حال المشرك فلا تقبل من مشرك لمنافاة الشرك للإخلاص، ولما دلت عليه هذه الكلمة مطابقة فإنها دلت على نفي الشرك والبراءة منه، والإخلاص لله وحده لا شريك له مطابقة. ومن لم يكن كذلك لم ينفعه قوله: "لا إله إلا الله" كما هو حال كثير من عبدة الأوثان يقولون: "لا إله إلا الله" وينكرون ما دلت عليه من الإخلاص ويعادون أهله وينصرون الشرك وأهله. وقال الخليل ﵇ لأبيه وقومه ٤٣: ٢٦، ٢٧، ٢٨: (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه) وهي "لا إله إلا الله" وقد عبر عنها الخليل بمعناها الذي وضعت له ودلت عليه، وهو البراءة من الشرك وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له كما تقدم تقريره، وكذلك من قالها ولم يقبل ما دلت عليه من الإخلاص، كان قوله لهذه الكلمة كذبا منه، بل قد عكس مدلولها فأثبت ما نفته من الشرك ونفى ما أثبتته من الإخلاص. فهذا الذي ذكرناه هو حال الأكثرين من هذه الأمة بعد القرون الثلاثة، وسبب ذلك الجهل بمعناها واتباع الهوى فيصدفه عن اتباع الحق وما بعث الله به رسله من توحيده الذي شرعه لعباده ورضيه لهم.
1 / 44