مريم حين قال له: "كن" فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو "كن"، ولكن بكن كان، فكن من الله تعالى قول، وليس "كن" مخلوقا، وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى" انتهى.
قوله: "ألقاها إلى مريم" قال ابن كثير: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها من روحه بأمر ربه ﷿، فكان عيسى بإذن الله ﷿، فهو ناشئ عن الكلمة التي قال له: "كن فكان"، والروح التي أرسل بها: هو جبريل ﵇.
وقوله: "وروح منه"١. قال أبي بن كعب: "عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله
_________
١ الظاهر أن معنى "وروح منه" أنه كغيره من بني آدم الذي يقول الله فيه: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) كما مثل له في الآية الأخرى بأنه مثل آدم. والله أعلم. وقال في قرة العيون: أي من الأرواح التي استخرجها من صلب آدم ﵇ وأخذ عليها العهد على أنه تعالى ربهم وإلههم كما قال تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) الآية. وروح عيسى من تلك الأرواح التي خلقها الله تعالى. وذكر ابن جرير عن وهب بن منبه قال: "نفخ جبريل في جيب درع مريم حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت عليه". وعن السدي أن النفخة دخلت في صدرها فحملت. وقال ابن جريج: يقولون إنما نفخ في جيب درعها وكمها انتهى مختصرا. فجبريل نفخ والله خلق بقول: "كن" فكان. كما قال تعالى: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) فسبحان من لا يخلق غيره ولا يعبد سواه. وقد أورد بعض النصارى على بعض علماء المسلمين قول الله تعالى: (وروح منه) . فقال في الجواب: هذا ليس خاصا بعيسى ﵇ بل المخلوقات كذلك كلها. كما قال تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) أي خلقا وإيجادا، وعيسى كذلك خلقه وأوجده كسائر مخلوقاته. وفي هذا الحديث الرد على اليهود أعداء الله وأعداء أنبيائه ورسله؛ فإنهم كانوا هم والنصارى على طرفي نقيض فنسبوه إلى أنه ولد بغي، قاتلهم الله. فأكذبهم الله تعالى في كتابه وأبطل قولهم كما أبطل قول الغلاة من النصارى فيما تقدم من الآيات ونحوها. فالنصارى غلوا في عيسى ابن مريم ﵇ أعظم الغلو والكفر والضلال، واليهود جفوا في حقه غاية الجفاء، وكلاهما قد ضل ضلالا بعيدا، نبه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه وبين تعالى الحق والصدق، ورفع قدر المسيح ﵇ وجعله من أولي العزم الخمسة المذكورين في سورة الأحزاب (٧: ٣٣ والشورى ١٣: ٤٢) وأمر نبيه ﷺ أن يصبر كما صبروا فقال: (واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)، فهم أفضل الرسل على التحقيق، والنبي ﷺ أفضلهم -صلوات الله وسلامه- عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
1 / 42