اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ١ فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ ٢ فمشيئة الله تعالى الشرعية عنهم منفية؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسن رسله، وأما مشيئته الكونية - وهي تمكينهم من ذلك قدرا - فلا حجة لهم فيها؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل، فلهذا قال: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾ انتهى.
قلت: وهذه الآية تفسير الآية التي قبلها. وذلك قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾ فتدبر.
ودلت هذه الآية على أن الحكمة في إرسال الرسل، دعوتهم أممهم إلى عبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وأن هذا هو دين الأنبياء والمرسلين وإن اختلفت شريعتهم. كما قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ ٣، وأنه لا بد في الإيمان من عمل القلب والجوارح.
قال: قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ ٤ قال مجاهد: "قضى" يعني وصى. وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهم. ولابن جرير عن ابن عباس: "وقضى ربك، يعني أمر".
وقوله تعالى: ﴿أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ﴾ المعنى، أن تعبدوه وحده دون ما سواه، وهذا معنى "لا إله إلا الله".
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: والنفي المحض ليس توحيدا، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات. وهذا هو حقيقة التوحيد.
وقوله: " ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ " أي وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحسانا، كما قضى، بعبادته وحده لا شريك له. كما قال تعالى في الآية الأخرى ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا َاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ ٥.
﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ ٦.
_________
١ سورة النحل آية: ٣٦.
٢ سورة النحل آية: ٣٥.
٣ سورة المائدة آية: ٤٨.
٤ سورة الإسراء آية: ٢٣.
٥ سورة الإسراء آية: ٢٣-٢٤.
٦ سورة لقمان آية: ١٤.
1 / 17