وأصبح عند ذلك قريبا من أديرة وادي النطرون، ولكنه رآها مقفرة لا يكاد يكون فيها أحد؛ فإن تلك الأديرة لم تعد إلى ما كانت عليه بعدما حل بها من التخريب منذ ثلاثين عاما،
14
وكان البدو لا يبيحون لأحد أن يعيد بناء كنائسها، ولا أن يقيم بها عدد كبير، فلم يكن فيها مقام للبطريق، وكان يحس فوق ذلك أنه ما زال على مقربة من العاصمة، فلا هو بآمن على نفسه، ولا هو مقيم بين ظهراني قومه ليدافع عنهم وينصرهم. فرأى أن يسير إلى الأهرام، ثم تركها وصعد إلى صعيد مصر سائرا على جانب الصحراء، وما زال حتى بلغ مدينة قوص،
15
ولاذ هناك بدير صغير بالصحراء غير بعيد عن تلك المدينة، وقد ظل هذا الدير مشهورا بمقامه فيه مدة قرون بعد ذلك.
وكان هرب «بنيامين» في نفس الوقت الذي جاء فيه «قيرس» إلى الإسكندرية أو قريبا منه، ولم نجد كلمة واحدة في خبر من الأخبار تدل على أن «قيرس» سعى مرة إلى أن يتقرب إلى بطريق القبط أو يتفق معه؛ فالظاهر أن مجيئه إلى مصر قد شرد قسوس القبط فزعين، وقد صار بطريقا من قبل الدولة الرومانية في الإسكندرية، وزاد سلطانه بأن صار واليا إلى حكومة مصر من قبل الإمبراطور.
16
ولا شك أن قبض «قيرس» على رياسة سلطتي الدنيا والدين معا هو الذي زعزع أمر بنيامين؛ فإن ذلك جعله يوشك أن يكون ذا سلطان مطلق. ولما قدم قيرس في أول الأمر تظاهر بأنه إنما جاء مسالما، وجعل يبين للناس كنه المذهب الجديد (المونوثيلي)، وهو المذهب الذي كان الإمبراطور يطمع أن يزيل به ما أحدثه مجلس خلقيدونية من الشقاق بين الناس. فكان عليه أن يستميل إلى المذهب الجديد أقباط مصر أولا وأتباع المذهب الملكاني ثانيا، ولكن الظاهر أن مذهبه لم يلق منذ أول أمره توفيقا؛ فقد أساء هو بيانه وإيضاحه، وأساء الناس فهمه، وتلقوه لقاء سيئا. فأما أتباع المذهب الملكاني فقد رأى كثير منهم أن المذهب الجديد نقض تام لمذهب خلقيدونية، وأما القبط فإن من سمع منهم بالبدعة الجديدة قال إن المذهب الجديد ما دام قد سلم بأن الله له إرادة واحدة وفعل واحد، فإنه لا بد له أن يسلم بأن له كذلك طبيعة واحدة؛ وعلى ذلك فإن «قيرس» إنما جاء في الحقيقة مسلما بالمذهب (المونوفيسي).
ولما أراد قيرس أن يزيل ما علق بالأفهام من الخطأ جمع مجلسا في الإسكندرية، وطرح عليه الأمر ليتناظر المجتمعون فيه وليتناقشوا في مسائله، وفي ذلك المجلس جاء صاحبنا «صفرونيوس»، وكان قد عاد إلى مصر وصار زعيم المعارضين من الملكانيين، واجتهد جهده أن يثني «قيرس» عما عزم عليه من البدعة تارة بالحجة وطورا بالتوسل والرجاء، وقيل إن «قيرس» أجابه جوابا لينا،
17
ناپیژندل شوی مخ