11 «أن جميع المطارنة والبطارقة في كل البلاد لعنوا «منصورا» هذا لأنه ساعد المسلمين». وكان هرقل قبل تسليم المدينة قد أرسل جيشا عظيما بقيادة أخيه «تيودور»، وكان جيشه أكبر عددا من جيش المسلمين، فقاتل خالدا أشد قتال، وظل النصر مترددا بين الفريقين حتى انتهى الأمر بفوز المسلمين، وانهزمت جيوش الروم فلم يبق لها أثر. وجاءت أنباء الهزيمة إلى هرقل وهو في أنطاكية،
12
فعرف أن الأمر قد انفلت من يده، وأن الله قد خذل الإمبراطورية، وأصبح غالب الفرس الوثنيين وقد غلبه العرب الذين لا يتبعون دين المسيح.
13
ومما زاد ألمه شدة علمه أنه ارتكب خطيئة بزواجه من ابنة أخته «مرتينه»، وأن جسمه آخذ في الاعتلال والانحلال. ولسنا نجد تفسيرا غير هذا نبين به سبب قعوده وتهاونه؛ فقد كان من قبل رجلا تلقاه أبدا في الصدر كلما ثارت الحرب ودعاه الناس لائذين بسطوته في القتال ودرايته بكل أموره. ولو لاقاه خالد بن الوليد «سيف الله» منذ ست سنوات للقي فيه قرنا كفيئا، ولكان في حربه أغزر حيلة وأبرع مكيدة، ولصمد لشجاعة قواد العرب البدوية فزلزلها وأوقع بها، ولكنه في ذلك الوقت الذي جاء فيه العرب لم يتحرك ولم يقد جيشا ليلقاهم به؛ فكأن يده كانت عند ذلك مغلولة، وكأن عقله كان مفلوجا. وقد جمع كبار قومه في حفل حافل في كنيسة أنطاكية يستشيرهم فيما يعمل، فقام شيخ أشيب وقال: «إن الروم يعذبون اليوم لعصيانهم كتاب الله، وتطاحنهم فيما بينهم وتخاذلهم، ولما يرتكبونه من الربا والقسوة، وكان حتما عليهم أن يؤخذوا بذنوبهم.» فكان قوله هذا فصل الخطاب، فأحس الإمبراطور من نفسه بضعف الجسم ووهن العقل، ورأى الحظ يتعثر به، وعرف أن مقامه بالشام قد أصبح لا غناء فيه، فرحل عنها إلى القسطنطينية في البحر في شهر سبتمبر من سنة 636،
14
وقال إذ هو راحل: «وداعا يا بلاد الشام، وداعا ما أطول أمده!» وإن في تلك القالة المعروفة التي قالها لرنة من الأسى، وكأننا بها تحمل ما كان يدور في نفسه من أن مجده الغابر ونصره الباهر قد انتهيا بعد بالخذلان والعار، وإنه إذ يقولها ليودع عزه وسطوته. وإن ذلك ليذكرنا بنابليون وما أحس به من الألم، إذ هو على ظهر السفينة (بلريفون) ينظر إلى وطنه فرنسا نظرته الأخيرة.
15
والحق أن فيما بين ذينك القائدين العظيمين لشبها من وجوه عدة في اضمحلال جسمهما وضياع قوتيهما على القتال، ولكن نابليون ظل إلى آخر مواقعه وهو ملك يقود جيوشه، في حين أن هرقل أضاع قواه سدى في نضال لا فائدة فيه أراد به توحيد الكنيسة، فلم يستطع أن يجمع ما بقي من قوى الدولة، أو يقود جندها إذا ما أزفت ساعة الخطر واشتدت الأزمة؛ فبقي من شدته ثلاث سنين خبت فيها آماله وذوت قوته وصوح نشاطه، وعلا أمر الإسلام تحت بصره وسمعه ولم يتحرك لمقاومته، فما زال الإسلام يعلو حتى طوى دولته تحت ظله.
ويذهب معظم المؤرخين مذهب مؤرخي اليونان، أو لعلهم أخطئوا تأويل ما قصدوه في رواياتهم، فيقولون إن هرقل صحا بغتة من سباته، واندفع إلى بيت المقدس لا يلوي على شيء لكي ينجي الصليب المقدس من أيدي أعدائه.
ناپیژندل شوی مخ