فكان هذا سببا في إضعاف المدافعين عنها إضعافا جعل المدينة في خطر داهم. وفوق ذلك كان القمح لا يصل إليها من ريف مصر. حقا إن أهل الإسكندرية كانوا يطعمون جزءا صغيرا من القمح الوارد إليها، ولكن تجارة القمح العظيمة كانت تصدر عن الإسكندرية إلى كل جوانب البحر الأبيض المتوسط، فكانت التجارة كلها تتدفق إلى خارج المدينة. فلما انقطع المورد لم يكن من الممكن أن تنقلب الحال، ويصبح واردا ما كان بالأمس صادرا. فلما استطال الزمن على ذلك الحال، وقل ما كان في الخزائن بغير أن يأتي مدد من «هرقل»؛ كان لا بد أن تشتد الحاجة بالناس، ويوقنوا أنهم لا بد أن يسلموا عندما يفتك بهم الجوع. إذا عرفنا هذا لم يكن بعد عجيبا أن يهرب «نيقتاس» حاكم القطر، وهو من نعرف فيه الشجاعة في الحرب والقوة في العمل والولاء والإخلاص لدولته، وقد هرب «نيقتاس» في سفينة إلى القسطنطينية يصحبه «حنا الرحوم»، وذلك «عندما كانت الإسكندرية على وشك التسليم للكفرة الفارسيين»،
15
فبلغت السفينة بهما إلى «رودس» ثم مرض البطريق. ولما أحس بدنو أجله سافر إلى قبرص فنزل بها، ثم مات بعد قليل في الموضع الذي ولد فيه، وهو «أماتوس»، وذلك في 11 نوفمبر سنة 617.
16
إذن لا بد لنا أن نقر أن أهل الإسكندرية كانوا قد ضاع أملهم في النجاة، وكل ما فعله بطرس طالب العلم الغريب الذي دل على عورتهم هو أنه أسرع بهم إلى القضاء المحتوم الذي كان لا بد نازلا بمدينتهم، وأغلب الظن أن ذلك القضاء لم يتقدم إلا زمنا قصيرا. ولسنا نعرف عن ذلك الخائن إلا أنه أتى من إقليم البحرين الواقع في الشمال الشرقي من بلاد العرب، ولسنا نستطيع الوثوق من دينه أكان مسيحيا أم يهوديا أم وثنيا، ولسنا ندري أكان له باعث على خيانته لتلك المدينة العظيمة، التي كانت مقر العلم وآوته إلى أحضانها، سوى خوفه الدنيء على حياته، وسعيه لتخليصها مهما بذل في سبيل ذلك، ولكنا نعرف أن البحرين كانت تحت حكم فارس، وأن أهلها كانوا، كما وصفهم العارفون، خليطا أكثره من الفرس واليهود ،
17
وبقيت كذلك إلى ما بعد العصر الذي نصفه الآن؛ وعلى هذا فإنه من الممكن أن ذلك الطالب قد ذهب إلى خيانته متسترا بستار الإخلاص لدولته. وقد جاء في القصة أن بطرس هذا قرأ يوما في ديوان سجلات المدينة كتابا جاء في آخره: «إذا ما عصفت الحوادث بالإسكندرية من الباب الغربي الذي من قبل البحر، فقد آن أوان سقوطها.» ولا شك أن هذه النبوءة قد وضعت بعد هذا الحادث، ولو أنها تصدق على فتح «نيقتاس» للمدينة في سنة 609، ولكنها على أي حال لا تكشف لنا عن الباعث الذي دفع الخائن إلى عمله ولا عن ديانته، بل الذي يمكن أن نعرفه منها هو أن بطرس كان يعرف أنه كان ينفذ قضاء محتوما على المدينة عندما ذهب إلى الفرس وبايعهم على أن يدلهم على عورتها.
ولعل مفاتيح الإسكندرية قد بعثت إلى كسرى في أول سنة 618. أما أهلها فقد قتل منهم كثيرون عند أول فتح المدينة، ولكن الفرس أبقوا على عدد كبير منهم، أخذ بعضهم سبيا وأرسل إلى بلاد الفرس،
18
وبقي البعض الآخر لم يمسسه سوء. وكان بين الذين نجوا بغير أذى البطريق «أندرونيكوس»، وقد لقي من الرفق على ما يلوح مثلما لقي «مودستوس» في بيت المقدس، وكان ذلك عن أمر ملك الفرس نفسه، ولكن أثر المصائب التي شهدها تحل بقومه، والخراب الذي نزل بهم في جميع أنحاء أرض مصر، لم يزل في قلبه يملؤه حزنا وأسى حتى قضى على حياته.
ناپیژندل شوی مخ