وهذا نظير قصة أخرى تذكر عن عمرو إذ وقع في الأسر، ثم أنجاه مولاه وردان بضربة على وجهه كانت سببا في خلاصه من الموت إذا هو انكشف أمره، فأخذت تلك القصة من موضعها ونقلها الكتاب المسلمون إلى وقت حصار الإسكندرية؛ فلعل قصة المكتبة تكون كذلك قد عزيت إلى الإسكندرية مع أنها قد تكون في أصلها قائمة على حادثة وقعت قد يكون عمر عناها بذلك القول وقضى فيها بذلك القضاء الشديد، ولكن في القصة مواضع أخرى لا تثبت إذا حملنا عليها بالنقد؛ وذلك أننا لو سلمنا أن المكتبة قد أحرقت كما قيل، لكان الأقرب إلى الأذهان أن تحرق فوق ربوة القلعة، ولكن القصة تريدنا على أن نقول إن تلك المكتبة قد كلفت الناس مشقة حملها في عيب وفرقوها بين الحمامات العدة فاتخذت وقودا مدة ستة أشهر. وما كل ذلك سوى نسيج من الباطل؛ فإن تلك الكتب إذا كان قد قضي عليها بالحرق لأحرقت حيث هي، وما كان عمرو بن العاص وقد أبى أن يعطيها لصديقه «فليبونوس» ليجعلها في أيدي أصحاب الحمامات في المدينة؛ فإنه لو فعل ذلك لاستطاع «حنا فليبونوس» أو سواه من الناس أن يستنقذوا عددا عظيما منها بثمن بخس في تلك الشهور الستة التي قيل إنها جعلت وقودا للحمامات فيها. وبعد فمما لا شك فيه أن كثيرا من الكتب في مصر في القرن السابع كانت من الرق،
4
وهو لا يصلح للوقود، وما كان أمر الخليفة ليجعله يصلح لذلك. فلنسائل إذن أنفسنا، ماذا كان من أمر تلك الكتب المخطوطة على الرق؟ وإذا نحن استبعدناها فكيف يتصور أحد أن ما يبقى من سواها يكفي لوقود أربعة آلاف حمام
5
مدة مائة وثمانين يوما؟ إن إيراد القصة على هذه الصورة مضحك، وإنه ليحق لنا أن نسمع ما فيها ونعجب.
وقد يقول قائل إن هذه الشبهات الصغيرة ليس من العدل أن يؤخذ بها، وإننا إذا أنعمنا النظر في الأمر، واستقصينا ما ذكر عنه، وفحصناه فحصا دقيقا؛ لم نجد مندوحة من الانتهاء إلى أن حريق المكتبة أمر صحيح على وجه الإجمال. ولا يسعنا مع مثل هذا القول إلا أن ندع القصة ونقدها في ذاتها ونلتمس دليلا مما هو خارج عنها لنرى هل يعززها في الجملة أو ينقضها، ولا بد لنا من النظر في أمرين نرى لهما شأنا عظيما فيما نحن بصدده؛ أولهما: هل كان «حنا فليبونوس»
6
على قيد الحياة في وقت فتح العرب؟ وثانيهما: هل كانت المكتبة باقية إلى ذلك الوقت؟ فأما الأمر الأول فإنه أمر مقرر لا يكاد يكون فيه شك؛ فإن حنا لم يكن حيا في عام 642، ولا حاجة بي إلى سرد كل ما يؤيد هذا الرأي؛ فمن المعروف أن حنا كان يكتب في عام
7
540، ولعله كان يكتب قبل تملك جستنيان، أي قبل عام 527، وقد يكون أدرك القرن السابع وعاش بضع سنين في أوله. وأما لو قلنا إنه عاش إلى عام 642، فإن سنه لا تكون عند ذلك أقل من مائة وعشرين عاما؛ فمن الجلي على ذلك أن يكون «حنا فليبونوس» قد مات منذ ثلاثين أو أربعين عاما قبل أن يدخل عمرو في الإسكندرية.
ناپیژندل شوی مخ