وهذا الوصف له شأن كبير من وجهين؛ الأول: أن هؤلاء الحكام الثلاثة الذين سماهم المؤرخ كانوا أكبر حكام مصر بعد حاكم الإسكندرية، وكانوا من الروم الملكانيين أتباع قيرس، ولم يكن بهم عطف على القبط لا في دينهم ولا في دنياهم. وهذا يدل على أن الذين دخلوا في الإسلام لم يكونوا كلهم من القبط؛ فإن بعض من أسلم من كبراء القوم كانوا من الروم. وإنا نكاد يداخلنا الشك في أمر المقوقس، وأنه قد فعل ما فعل إذ كان يؤمن سرا بدين الإسلام. وأما الوجه الثاني: فإنه قد ثبت أن عمرو بن العاص كان يعامل المصريين قبل فتح الإسكندرية وبعدها أشد المعاملة. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يردد قوم تلك الكلمة القديمة الشوهاء، وهي أن القبط رحبوا بالعرب وفتحوا لهم ذراعيهم؟ فإن قول حنا النقيوسي في هذا الصدد يكفي وحده لهدم هذا الرأي وإظهار فساده. أما متأخرو المؤرخين من العرب، وهم الذين يأخذون بهذا الرأي، فبين أمرين: إما أن يكونوا على خطأ فيما ذهبوا إليه، وإما أن يكون في وصفهم لعمرو تهمة شنيعة؛ إذ يجعلونه مرتكبا لأعظم الجحود ومجازاة الإحسان بأشنع الإساءة، وكلما أنعم الإنسان النظر في تاريخ هذا العصر، وجد أن قيرس لم يكن وحده الخائن الذي أوقع بالدولة الرومانية، وحسبنا دليلا على ذلك ما كان من هؤلاء الحكام الثلاثة الذين سارعوا إلى افتداء دنياهم وسلطانهم بأن نزلوا عن دينهم، وجعلوا ولاءهم للإسلام ودولته، وانقلبوا على القبط بما صار في يدهم من السلطان الجديد يؤذونهم في دينهم ودنياهم؛ فالحق الذي لا مراء فيه أن الروم كان فيهم الكثيرون ممن يكيدون لدولتهم، وأن الكائدين كانوا من ناحية يوقعون بالقبط، ومن ناحية أخرى يوالون العرب ويعينونهم.
لم يبق بعد ما ذكرنا إلا قليل من القول في وصف الشهور الستة التي مرت على الإسكندرية بين موت قيرس وبين دخول جنود العرب فيها؛ فإننا لا نعرف شيئا أكيدا من حوادث هذه المدة إلا اختيار خلف للمقوقس بطريقا للمذهب الملكاني، ولم يحدث ذلك إلا بعد أن مضى نيف وثلاثة أشهر على موت المقوقس؛ ففي الرابع عشر من شهر يوليو
9
في عيد القديس «تيودور»، ألبس الشماس بطرس لباس البطرقة، وجلس على العرش الذي خلا من آخر بطارقة الإسكندرية تحت حكم الروم . ولعل ذلك الإبطاء كان لاستشارة القسطنطينية، أو لعله كان لتردد أهل الدين في قبول تلك الولاية بعد أن انشقت الولاية الدينية في مصر عن السلطنة الدينية في الإمبراطورية، وأصبح أمرها مخوفا مضطربا منذ يئس الناس من رجوع الأمر إلى الدولة البيزنطية. أما فلنتين وجيشه الذي كان يملأ فمه بذكره، فلم يغن عن مصر شيئا، ولم يستطع أن يخطو خطوة في سبيلها، مع أن أهل مصر كانوا قد أخذوا يعرفون بطلان أحلامهم التي كانوا يمنون بها أنفسهم من الاطمئنان إلى حكومة العرب واستقرار الأمور معها، وثبوت ما يطلب منهم فيها من ضرائب لا تزداد عليهم؛ إذ جاء أن أهل البلاد جميعا كانوا يئنون من شقائهم في حكم العرب. وكان أجل المصاب ما أصاب مدينة الإسكندرية من ذلك؛ فقد فسد حال التجارة التي كانت تدر الخير على أهلها، وخرج منها جماعة من أغنياء أعيانها وتجارها عولوا على الهجرة والنزوح عنها، فصار عبء الضرائب إلى كواهل من بقي في المدينة من الناس فأبهظها. وأخذ الناس يحسون ما في دخول العدو في بلادهم من ذل لهم وتضييع لملتهم، ولم تجدهم في ذلك ألفاظ معسولة وأقوال ناعمة كان قيرس يزجيها إليهم.
فكان الهم والغم يظلان المدينة في الأسابيع الأخيرة من مدة الهدنة، وكان كثير من المنازل قد خلا من أهله، وهدأت ضجة الارتحال من مراسي المدينة بعد أن تحملت سفن يتلو بعضها بعضا بالنازحين من الروم ومتاعهم وأثاثهم، وسارت بهم إلى الشمال إلى حيث لا عودة، ولم يبق إلا أسطول كبير يتجمع في مرفأ الإسكندرية ليحمل من بقي من جنود الروم. والظاهر أن الذي كان يقوم على ترحيل جنود الروم من بلاد مصر السفلى اثنان من القادة، وهما «تيودور» الذي أصبح حاكم مصر بعد موت قيرس، و«قسطنطين» الذي أصبح القائد الأعلى لجيش الروم بعد «تيودور». وكانا يقومان به بالاتفاق مع العرب.
10
وكان النيل عند ذلك قد أخذ يزداد، وصارت الترع صالحة لسير السفن ونقل الأشياء؛ ولهذا السبب وقع الاختيار على ذلك الوقت لخروج الروم ، فما إن حل حتى ركبت بقية جيش الروم في السفائن مع «تيودور» و«قسطنطين» وهبطوا نحو الإسكندرية، وعند ذلك أطلق سراح من كان في يد العرب من الرهائن الذين أودعوهم حصن بابليون، أو لقد ذهب العرب بهم حتى لحقوا بأصحابهم في العاصمة.
11
دار الفلك دورته وعاد عيد الصليب، وكان من عجائب المقدور أن اتفق في ذلك اليوم الرابع عشر من سبتمبر من العام المنصرم مجيء المقوقس رئيس الأساقفة الخائن في رجعته إلى مصر، ثم عاد اليوم بعد عام ليشهد آخر مشهد من زوال ظل السلطان المسيحي عن مصر، فكانت صلاة إعلاء الصليب تتردد أصداؤها في الكنيسة، في حين كانت السفن تتجهز آخر جهازها في الميناء ويؤذن لها بالسير. فما طلع اليوم الثالث بعد هذا،
12
ناپیژندل شوی مخ