ولا نعرف إلا قليلا من وصف البناء الذي بناه الناس في الفسطاط؛ فقد كانت أكثر المنازل من اللبن، ثم علا فيها البناء حتى صار إلى طبقات أربع أو خمس. فإذا أردنا أن نصور لأنفسنا صورة تلك المنازل كان لا بد لنا أن نصورها قطعا عظيمة من البناء، قائمة على غير استواء ولا نظام، تدعمها أعمدة رومانية لا شيء فيها من الزينة ولا من جمال التنسيق، تشبه كل الشبه ما هو موجود أو ما كان لا يزال في مدينة رشيد من البناء منذ عشرين عاما. وقيل إن بعض هذه المنازل الكبرى كان يسكن فيه نحو مائتي فرد، وكانت الطبقة السفلى مما يلي الأرض لا يسكنها أحد إلا قليلا. وقيل إن خارجة بن حذافة النائب المعروف الذي كان عمرو ينيبه عنه كان أول من اتخذ لداره مشربة أو طنفا. فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو أنه ما فعل ذلك إلا ليشرف على من حوله ويطلع على عوراتهم وسرهم، وأمره أن يهدمها. وقد بنيت في الفسطاط حمامات كان يسمى أحدها «حمام الفار»؛ إذ كانت صغيرة حقيرة البناء إذا قيست بحمامات الرومان العظيمة.
وكان لا بد للمدينة فوق مسجدها ومنازلها وحماماتها أن يكون لها مقبرة. وقد رويت في ذلك قصة عجيبة، وذلك أن قيرس بعث إلى عمرو أن يبيعه قطعة من الأرض عند سفح الجبل بسبعين ألف دينار، فلما سئل عن سر ذلك الثمن العظيم قال إنه قد جاء في كتبهم أن ذلك الموضع روضة من رياض الجنة. فلما علم عمر بن الخطاب بذلك قال إنما روضة الجنة حيث يدفن المؤمنون، وأبى ذلك البيع على المقوقس، وأمر بجعل تلك الأرض مقبرة للمسلمين. وقد دفن فيها فيما بعد عمرو بن العاص وأربعة من الصحابة.
ثم أقبل عمرو على عمل عظيم آخر، وهو حفر خليج تراجان.
30
وكان ذلك الخليج يخرج من النيل إلى شمال بابليون بقليل، فيمر بمدينة عين شمس، ثم يسير في وادي الطميلات إلى موضع القنطرة حتى يتصل بالبحر الأحمر عند القلزم.
31
وقد أهمل الروم أمره حتى سده الطين، وكان أقدم عهدا من حكم تراجان، وإنما سمي باسمه لأنه أعاد كريه وأصلحه، كما عزم عمرو بن العاص على أن يفعل به عند ذلك. وقد أظهر العلامة «فيل»
32
أن جزءا منه إن لم يكن كله يرجع الفضل في حفره إلى فرعون مصر «نخاو»، وهو الذي حفر خليجا في برزخ السويس من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر، وقد أصلحت الترعة مرة أخرى في مدة بطليموس الثاني (فلادلفوس)، ولكنه جعلها تنفصل من النيل عند «فاقوس» بعد أن كانت تنفصل عنه عند «بوبسطة». ولسنا نعرف الوقت الذي حفر فيه جزء الترعة الذي بين بوبسطة وبابليون. على أن هذه الترعة لم تكن ذات غناء كبير؛ لأن الماء لم يكن يجري فيها إلا عند فيض النيل. ولما أهمل أمرها أصبحت من بعد القرن الثاني للميلاد غير صالحة لسير السفن، وكان لا بد للرمل أن يسدها بالسقوط فيها إذا ما قل تعهدها والاعتناء بأمرها. وقيل إنها كانت في ذلك الوقت خفية الأثر حتى احتاج عمرو إلى من يدله على موضعها من القبط، فأجازه برفع الجزية عنه، ولكن سرعة حفرها وإعادتها إلى الصلاح تدلنا على أن بعض مجراها الذي طوله تسعون ميلا كان لا يزال صالحا. على أن مثل ذلك الإسراع لم يكن عجيبا؛ إذ كان يعمل فيها عدد عظيم من أهل البلاد يساقون إلى ذلك كأنهم أرقاء، يسوقهم من ورائهم مقدمون وخول، على ما جرت به سنة أهل مصر منذ أقدم الأزمان. ويلوح لنا أن العرب لجئوا إلى هذه السخرة بشدة لم تعهد من قبل، حتى لقد وصفهم «حنا النقيوسي» وصفا شديدا، وتناولهم بالقول القاذع فقال: «وكان نيرهم على أهل مصر أشد وطأة من نير فرعون على بني إسرائيل. ولقد انتقم الله منه انتقاما عادلا بأن أغرقه في البحر الأحمر بعد أن أرسل صنوف بلائه على الناس والحيوان، ونسأل الله إذا ما حل حسابه لهؤلاء المسلمين أن يأخذهم بما أخذ به فرعون من قبل.»
33
ناپیژندل شوی مخ