150

عربو ته مصر د فتح

فتح العرب لمصر

ژانرونه

3

وكان لا بد له من إقرار إمبراطور الروم، كما كان لا بد له من إقرار خليفة المسلمين عمر، وكان في مدة الهدنة، وهي أحد عشر شهرا، متسع يكفي لذلك وما يلزم له من الرسوم، ثم عاد قيرس مسرعا إلى الإسكندرية يحمل معه كتاب الصلح.

وكان أول ما عني به أن يرسل شروط الصلح إلى «تيودور» وهو القائد الأعلى، ثم إلى قسطنطين وهو قائد الحرس. ومن أعجب الأمور أن «تيودور» لم تكن له يد في مفاوضة الصلح، ولم يحضر كتابته في «بابليون»، مع أنه كان حاكم المدينة من قبل الإمبراطور. والحقيقة أن كل ما يمس «تيودور» محير مدهش، فلسنا ندري من أمره شيئا، حتى لنجهل هل كان قد علم بعزم «قيرس» على تسليم المدينة للعرب قبل أن ينفذه، فإذا كان قد علم بذلك فلا بد أنه قد غير رأيه وأصبح من أشياع الصلح مع العرب، وأما إذا كان غير عالم بذلك فمن أعجب الأمور أن يسارع إلى الموافقة على أمر لا يمكن أن نصفه إلا بأنه كان تسليما شائنا.

وكانت أنباء ذلك الصلح الذي عقد في طي الخفاء تتردد بين رؤساء موظفي الحكومة وبين زعماء الناس في العاصمة، يتناقلها بعضهم عن بعض همسا ووسوسة، يفضي بها الرجل إلى من يأمنه ويطمئن إليه، وأما العامة فإنهم ظلوا في جهالة لا يعلمون من أمره شيئا، وأرسلت الرسائل إلى الإمبراطور هرقلوناس تفضي إليه بشروط الصلح، وطلب إليه أن يقرها. والظاهر أن القائدين كانا كلاهما يعززان ذلك الصلح ويوافقان على طلب إقراره، وإن في تعزيزهما له وموافقتهما عليه لحجة يمكن الاستناد عليها في تبرير ما أتاه قيرس ورفع الوزر عنه بعض الشيء. على أنه من المعلوم ما كان عليه «تيودور» من العجز في قيادة الحروب وضعف الرأي فيها، فموافقته على الصلح على ذلك لا قيمة لها، وحكمه في أمر الحرب مدافع لا يعتمد عليه. ومهما يكن من الأمر فإن «قيرس» عندما أحس بأنه مهد السبيل إلى إعلان الأمر في الإسكندرية، دعا كبار قواد الجيش وعظماء رجال الدولة، ولما انعقد عقدهم جاءوا وعليهم «تيودور» و«قسطنطين»، حتى إذا مثلوا بين يدي البطريق «قيرس» أظهروا له الولاء وأعلنوا له الطاعة. ولنا أن نصوره لأنفسنا، وقد جلس في أبهته واتخذ زينته، وجعل يبين لهم ما تضمنه الصلح من شروط بما أوتي من فصاحة وبراعة، ويسهب في ذكر الضرورة التي استوجبت عقده وما فيه من مزايا، فما زال حتى فاز بما أراد من حمل سامعيه على الإيمان بقوله، ولكنه كان فوزا ما أشأمه.

وبهذا خطا «قيرس» خطوة جديدة في سبيل إنفاذ خطته في الإيقاع بمصر. على أنه ما كان ليستطيع أن يبقي خطته في ستر الخفاء بعد ذلك طويلا، فعلم الناس بما كان، ولكن علمهم لم يأت عن قالة قالها «قيرس»، ولا إشاعة ترددت وذاعت بينهم، بل علموا بالأمر بغتة وقد فجأهم طلوع فئة من العرب على المدينة، فنفخت الأبواق إيذانا بمقدمهم، وأسرع الناس من كل جهة ليقفوا في أماكن الدفاع من الأسوار والحصون، ولكن العرب ساروا على خيلهم لا يلوون على شيء ولا يعبئون بالضجة، وجاء قواد الروم عند ذلك بعد أن كانوا قد قضوا على حماسة الجنود وإقدامهم، فجعلوا يهدئون من روع الناس، وينادون فيهم أن لا جدوى في القتال ولا أمل من ورائه. وقبل أن يقترب العرب حتى يصيروا على مدى رمي المجانيق، أبصرهم الناس وهم يحملون أعلام الهدنة والسلام، فأشير إليهم بعلامة الرد فاقتربوا، حتى إذا ما صاروا بحيث يسمعون ويسمع منهم أفضوا إلى جنود الروم بما كان. وما كان أشد عجبهم ودهشتهم مما علموا؛ إذ عرفوا عند ذلك أن العدو لم يأت ليقاتلهم، بل أتى ليحمل الجزية التي اتفق عليها مع «قيرس» المقوقس في عقد الصلح الذي طلبه من العرب وكتبه معهم على تسليم المدينة، فهاج الناس وثار ثائرهم لما سمعوا، وذهبوا غير مصدقين حتى أتوا قصر البطريق، فاطلع عليهم منه بعد لأي، وكان الخطر في تلك اللحظة محدقا بحياته؛ إذ تهافت الناس إليه يريدون أن يحصبوه.

غير أن كبر سنه وعلو مكانته خذلا الناس عنه وحمياه من الخطر، فأشار إلى الناس إشارة فهدءوا، ثم استطاع الكلام، واستعان بما أوتي من بلاغة وفصاحة على تخفيف جنايته وتهوين خيانته في مقالته التي قالها بين الناس، وجعل يبرر ما كان منه قائلا إنه إنما اضطر إلى ركوب الصعب اضطرارا إذ لم يكن بد منه، وما قصد إلا مصلحة قومه وفائدة أبنائهم؛ فإن العرب قوم لا يقوم لهم شيء إلا غلبوه. وقد أراد الله أن يملكوا أرض مصر، فما كان للروم إلا أن يصالحوهم؛ فإنهم إن لم يفعلوا جرت الدماء في طرق مدينتهم، ونهبت أموالهم وقتلوا، ومن بقي منهم حيا خسر ما كان يملك وضاع أمره، ولكن الصلح حقن دماءهم، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وديانتهم، ومن أراد أن يعيش في أرض مسيحية كان له الخيار في ترك الإسكندرية. وما كان أمر الخيار بين الهجرة من مصر وبين الإذعان للمسلمين بالأمر الهين؛ فلم يتمالك البطريق معه، بل بكى وهو يطلب من الناس أن يصدقوا أنه إنما بذل جهده في أمرهم، وأن عليهم أن يرضوا بالصلح الذي عقده من أجلهم يقصد به صلاح حالهم.

بهذا استطاع «قيرس» مرة أخرى أن يفوز برأيه المشئوم، فإذا بالناس وقد عادوا إلى رأي الجيش، ورضوا بالتسليم والنزول عن مدينتهم العظيمة للعرب على شرط العقد الذي تم. وجعل الثائرون يتلاومون على ما اقترفوا من الوثوب والحنق على ذلك الحبر الطاهر، في حين كان يسعى جهد طاقته ليحول بينهم وبين الهلاك على يد الغزاة، وأخذوا يجمعون قسط الجزية التي فرضت عليهم وزادوا عليها مقدارا كبيرا من الذهب، ووضع ذلك المال في سفينة خرجت من الباب الجنوبي الذي تدخل منه الترعة، وذهب به قيرس بنفسه ليحمله إلى قائد المسلمين.

4

وبذلك تم فتح الإسكندرية، وإذا حسبنا تاريخ ذلك وجدنا أن أداء ذلك القسط الأول من الجزية قد يكون في أول المحرم من سنة إحدى وعشرين من الهجرة، وذلك هو اليوم العاشر من ديسمبر من عام 641، وليس في مصادر التاريخ ما يثبت ذلك التاريخ وينص عليه صراحة، ولكن الرواية التي تناقلها العرب تجعل فتح المدينة في ذلك اليوم، ولعل منشأ تلك الرواية كان عمن حضر ذلك اليوم وشهد إذعان أهل الإسكندرية بحملهم أول قسط من جزيتهم، ومع ذلك فإن مؤرخي العرب يجعلون أول المحرم في يوم الجمعة، مع أن أول المحرم لم يقع في يوم جمعة في ذلك العام ولا في عام قريب منه إلا في عام 645؛ وعلى ذلك يكون لنا أن نقول إن الرواية لا يمكن أن تكون صحيحة في كل أجزائها، بل لقد تكون كلها غير صحيحة، ولكنا نتردد في الأمر، ونحمل أنفسنا على القول إنها لا بد أن يكون لها أساس من الحقيقة؛ لأنها رواية من أثبت الروايات في أخبار الفتح العربي.

5

ناپیژندل شوی مخ