6
وإعلاءه موضوع خطبته كما ينبغي له، وكانت الكنيسة الشرقية في ذلك الوقت ولا تزال إلى وقتنا هذا تحتفل بهما معا. وإنه لمعنى جليل ذلك المعنى الذي جعله «قيرس» قطبا لخطبته، معنى يخلع على قائله رونقا إذا أعوزته الفصاحة، فما بالك بقيرس وهو رب البيان والبلاغة؟ فجعل يذكر الناس بحوادث الماضي وما فيها من عجب، منذ قام هرقل بجهاده في سبيل الصليب حتى ظفر به فأعاده من يد أعدائه الفرس، ثم أقامه في بيت المقدس في ذلك اليوم المشهود يوم النصر والفوز. ولقد كان قيرس يرمي إلى غرض من سوق تلك القصة، فما كان ذلك القصد الذي رمى إليه؟ لقد صار بيت المقدس في أسر المسلمين عند ذلك، وقد صار المسلمون على أبواب الإسكندرية ذاتها، فكان الأمر على مثل ما كان عليه من البلاء والشدة عندما كان كسرى يملك فلسطين والشام ومصر، فهل تجرأ قيرس في خطبته على الإشارة إلى المغزى الذي تدركه الأفهام من قصة جهاد هرقل؟ وهل أثار في قلوب سامعيه الأمل في الخلاص والإيمان بالنصر، واستفزهم إلى جهاد عدوهم باسم الصليب؟ إنه ما كان ليجرؤ على ذلك وقد خذل الصليب، وعمل على أن يذله للإسلام ويحنيه لألويته. إنه قد يكون تحاشى الاقتراب من أمور السياسة في خطبته، ولكن لا شك في أنه في خطبته ذلك اليوم لم يزح عن قلبه ما كان يثقله من الأسرار.
ولكن لم تنته تلك الصلاة إلا على كدر ونحس؛ فإن المصلين أقبلوا بعد الخطبة على الصلاة، فقرأ الشماس بدل ما كان يجب عليه قراءته من الأناشيد في ذلك اليوم مزمورة أخرى فيها إشارة لرجعة البطريق؛ يريد بذلك أن يتملقه ويهنئه. فلما سمع الناس ذلك ضجوا قائلين: إنه قد خالف السنن. وتطيروا به على البطريق، وجاء في تلك القصة أنهم قالوا إن البطريق لن يشهد عيدا للفصح بعد ذلك.
7
ولا شك أنهم قد رأوا عليه تغيرا واعتلالا؛ إذ كان النفي قد أسقم جسمه، وكان السير في الزحام ذلك اليوم قد أتعبه، ثم أجهدته بعد ذلك الخطبة وما بذل فيها. ولا بد فوق كل ذلك أن وجهه كان ينم عما كان في قلبه من أشجان تجيش به فتمزقه؛ فقد كان يرى الناس من حوله يثقون به ويرفعون ذكره، ويرونه نصيرا لهم ومعينا في محنتهم، وكانوا جميعا عند ذلك قد طهرت قلوبهم وامتلئوا إيمانا بالصليب، حتى ليجاهدون في سبيله ويلقون النصر على وعده، ولكن فيما كانوا والآمال تطلع عليهم وتملأ نفوسهم، كان الحبر الأعظم يحس في نفسه وكسا ووهنا، ويشعر في قلبه الوخز الأليم؛ إذ كان مقبلا على خيانتهم بعد قليل، مقدما على خذلان الصليب والإيقاع بدولة الروم. لقد كان في مقامه ذلك بين شجون شديدة تنتابه، ولا غرابة أن ينم مظهره الكليل على ما كان يثقله ويهزهز نفسه العاتية، ولا عجب أن يرى الناس في أمارات وجهه أمارات الموت.
قضى قيرس مدة قصيرة بعد مقدمه يعالج طائفة من أمور الدين والدولة كان لا بد فيه من الإسراع بمعالجتها في الإسكندرية. ويلوح لنا أن «أنستاسيوس» كان الحاكم المدني للمدينة في مدة غياب «قيرس»، ومن الجائز أن يكون «جورج» الذي استخلفه «قيرس» عند خروجه من مصر على ولاية الدين هو بعينه البطريق الذي كان قبله.
8
وكان «جورج» عند ذلك شيخا كبيرا، ولكنه كانت له في قومه عزة، وكان كل الناس يظهرون له الإجلال والإعظام، لا فرق في ذلك بين حاكم المدينة ومن هم دونه، ولم تكن له يد في اضطهاد القبط. وفي الحق أن القبط تنفسوا الصعداء منذ رحل عنهم قيرس، ومنذ انقطعت الصلة بين سلطان الروم وبين قطع كبيرة من بلاد مصر، ولكن «قيرس» لم ينس بعد عودته ما كان في قلبه من الحفيظة على ديانة القبط، فكان يرضى بالإذعان للعدو وإسلام البلاد له ومصالحة من لا يؤمنون بدين المسيح، ولكنه ما كان ليرضى بأن يسالم القبط أو يعفو عنهم؛ فاستل سيفه مرة أخرى، ولم يلن قلبه لما حل به من مصائب الدهر ونوازله، بل عاد إلى عسفه بالقبط وظلمه لهم بقلب لا رحمة فيه، وجعل يوقع بمن كان منهم في منال
9
يده.
ناپیژندل شوی مخ