وكان ذلك الضابط ممن يعرفون فضل أوباس وعائلته، ولكنه كان - كأكثر رجال الدولة - مندفعا مع التيار الأكبر يرى الحق ويقوله ولكنه لا يفعله، شأن الدولة في أدوار انحلالها وتقهقرها، فإنها لا تخلو في أثناء ذلك الانحلال من رجال عقلاء، يشعرون بما أصاب دولتهم من الخلل وينتقدون أعمال حكومتها فيما بينهم وهم خارج المناصب، ويزعمون أنه لو أتيح لهم الوصول إلى تلك المناصب لأدخلوا في الحكومة إصلاحا كبيرا، فإذا تولى أحدهم الحكم رأى نفسه مندفعا - برغمه - مع تيار الأحوال العامة كما فعل أسلافه، وإذا حاول مقاومة ذلك التيار عرض نفسه للخطر، ويندر أن يطول بقاؤه على عزمه القديم وهو في منصبه لعجزه وهو فرد عن مقاومة مجرى الأحوال. والدولة إنما بلغت تلك الدرجة من الانحطاط بتوالي الأجيال، والبدن إذا ابتلي بالضعف من الهرم لا يرجى عوده إلى الشباب، إلا أن يكون المصلح في أكبر المناصب، فقد يأتي بإصلاح ذي بال ولكنه يذهب بذهابه.
وقد كان في طليطلة كثيرون ممن يرون الخلل المتسرب إلى الدولة، ولكنه لم يكن لهم سبيل إلى مناصبها الكبرى. وأما صغار المستخدمين فليس لهم إلا التذمر والكظم كما كان شأن ذلك الضابط.
رجع أوباس إلى مقعد في تلك الغرفة، جلس عليه واستغرق في الهواجس حتى مضى بعض النهار. فلما رأى الخادم آتيا إليه بالطعام تحقق أن بقاءه سيطول هناك، وزاد قلقه فرفض أن يأكل ورد الطعام، واستقدم الضابط وقال له: «إني لا أستطيع أن أتناول طعاما قبل أن أعرف سبب هذه المعاملة، فهل لك أن تستطلع ذلك من أحد؟»
فقال: «أرى - يا مولاي - أن تكتب كتابا أحمله إلى مجلس الملك لعلي آتيك بالجواب الشافي.»
فأخرج أوباس من جيبه لوحا مشمعا كتب عليه بالمسمار ما معناه: «حملني جندك إلى هذا المكان بلا ذنب اقترفته، والملك يعلم أن رجال الكهنوت لا تجوز معاملتهم على هذه الصورة، وإنما هم تحت سيطرة الكنيسة، فلا أدري سبب هذا السجن، إلا أن يكون ذلك من جملة ما نخر في حياة هذه الدولة.»
فحمل الضابط الكتاب وسار به إلى القصر، ولم تمض برهة حتى عاد وهو يقول: «إن الأب مرتين قادم لمقابلة قداستكم.»
فلم يسر أوباس لذلك الخبر إلا على رجاء أن يعلم منه سبب ذلك الأسر، وقد علم أنه آت بأمر الملك، فظل أوباس جالسا فدخل مرتين مهرولا وهو يتمتم كأنه يتلو بعض الأدعية حتى وقف بين يدي أوباس فحياه، وهم كأنه يريد تقبيل يده لارتفاع رتبته الكهنوتية، فلم يبال أوباس بكل ذلك بل ظل ساكتا.
فجلس مرتين على كرسي تجاه مقعد أوباس وهو يبتسم ووجهه يتهلل فرحا، ولا يفرح الإنسان بشيء أكثر من فرحه بفوزه على عدوه.
وتنحنح الأب مرتين مرارا ومسح وجهه ولحيته غير مرة استعدادا للكلام كأنه يهم بالتلفظ، ولكن عقدة لسانه كانت تحول دون الإفصاح إلى أن فتح الله عليه، فقال وهو يقطع الكلام: «قد بعثني جلالة الملك لأبلغ قداستكم أنه يعلم امتيازات الكهنة، وأنه لا يجوز سجنهم أو محاكمتهم إلا في مجالس كهنوتية، ولكنه إنما أمر بالقبض عليك مؤقتا ريثما يجتمع مجلس الأساقفة وهم ينظرون في أمرك ...»
فلم سمع أوباس قوله زاد استغرابا ولم يفهم المراد تماما؛ لأن مجمع الأساقفة إنما يجتمع مرة في السنة أو مرتين، ولا يجتمع غير اجتماعاته المعينة إلا للنظر في أمور في غاية الأهمية، كانتخاب الملك أو البحث في خطر يتهدد المملكة أو غير ذلك. واجتماع هذا المجمع يقتضي مكاتبة أساقفة الأقاليم والمطارنة؛ مما يستغرق أياما عديدة. فأطرق أوباس وأعمل فكره في هذا الأمر ولم يجب.
ناپیژندل شوی مخ