وجاء في أثره بضعة من فرسان البرابرة يتلون آية التوحيد وفي أيديهم السيوف، فلم يستطع فرسان رودريك الثبات أمامهم طويلا، فلما خشوا إخفاق مسعاهم أسرع أحدهم إلى الملك يستنجد به، فلم يلبث رودريك أن جاء بنفسه وقد غادر سريره إلى جواد مثقل بالزخارف، وفيها المجوهرات على تاجه ونطاقه وسيفه وقبائه حتى نعاله، وكذلك عدة الفرس فقد كانت مرصعة، والجواد من أجمل الخيول شكلا وقواما، ولكن جواد بدر يفضله خفة وسرعة مثل سائر خيول العرب.
وكان بدر قد شتت شمل الفرسان عن فلورندا حتى أوشكت أن تنجو، وإذ برودريك قد أقبل بأثقاله، فلما وقعت عيناها على عينيه صاحت هي وخالتها بصوت واحد: «هذا هو طاغية القوط.»
فتحول بدر إليه فعرفه من قيافته أنه الملك، وتبارزا، وكان بدر أنشط بدنا وأخف حركة فتجاولا وتصاولا، وكان رودريك من القواد المعروفين. وكانت فلورندا على جوادها وعيناها شاخصتان إلى الرجلين تتتبع كل حركة من حركاتهما، وقد حبست أنفاسها لئلا يشغلها التنفس عن مراقبة تلك المبارزة لعلاقة ذلك بحياتها أو مماتها. فإذا هجم رودريك شاركت بدرا بتلقي ضربته وربما رفعت يدها لتتلقاها وإذا هجم بدر أحست كأنها تهجم معه، وهي في الحقيقة واقفة في مكانها، ولكن جوارحها كانت تشارك نصيرها بكل حركة. ثم ما لبثت أن رأت رودريك يستمهل بدرا بالإشارة، وكان بدر يود أن يقبض عليه ويسوقه إلى طارق أسيرا لينال بأسره فخرا. ولما رآه يستمهله أجابه بالإشارة أيضا أن يمضي معه إلى معسكر المسلمين، فأجابه أنه سيفعل ذلك بعدئذ، ففهم بدر أنه ينوي قضاء حاجة قبل التسليم، فأطاعه على غير حذر، وقد يكون استمهاله خدعة ينوي الفرار بها، ولكن بدرا كان مستخفا بالرجل ومعتدا بنفسه. فحول رودريك شكيمة جواده نحو خيامه فالتفت بدر إلى رفاقه وكلمهم بالبربرية أن: «خذوا هذه الفتاة إلى خيمتي» واقتفى أثر رودريك.
وكان القوط قد ضعفت عزائمهم، فلما رأوا ملكهم فارا ركنوا هم أيضا إلى الفرار. أما بدر فما زال يتعقب رودريك، ورودريك يجول في معسكره كأنه يفتش عن ضائع وبدر يتبعه ويعجب من مسيره على تلك الصورة، حتى انتهيا إلى خيمة خرج منها كاهن امتطى فرسا وهم بالفرار، فصاح رودريك فيه: «مرتين.» فالتفت مرتين واقترب من رودريك، فابتدره رودريك بسيف كان مسلولا في يده وهو يقول: «كل هذا البلاء من فساد سريرتك وضعف رأيك» فأصابت الضربة عنقه فوقع مضرجا بدمه، فتركه صريعا وساق جواده نحو الوادي وبدر يتبعه حتى وصل ضفة النهر، وأظهر أنه لم يعد يقوى على رد جماح جواده فأرسله في الماء فغرقا معا. ويقال إنه فعل ذلك عمدا وفضل الموت غرقا على أن يقتله أحد من أعدائه.
فرجع بدر وهو يصيح: «قتل الطاغية. قتل الطاغية.»
فازداد المسلمون جرأة وأوغلوا في معسكر أعدائهم. ولم تمل شمس ذلك اليوم إلى الأصيل حتى خلا المعسكر من القوط إلا من وقع قتيلا أو أخذ أسيرا، واستولى المسلمون على ما فيه من العدة والذخيرة والزاد، والأمتعة والخيول والماشية، وغير ذلك.
وكان طارق بن زياد في أثناء المعركة يجول على جواده ويحرض المسلمين على الثبات ويكافح ويجالد ويقاتل، لا يبالي بقلة رجاله بالنسبة إلى رجال القوط، وهو لم يكن يعلم بما كتبه يوليان إلى ألفونس. ولكنه صمم على التفاني في سبيل الفتح كما رأيت من خطابه الذي ذكرناه. على أنه كان قد صمم على الفناء في هذا السبيل منذ وطئ الأندلس، فأحرق سفنه ليبذر اليأس من احتمال التراجع، في نفسه وفي نفوس رجاله، فتنمحي فكرة التعلق بها أو الالتجاء إليها إذا غلبهم القوط. ولذلك لم يكن يبالي بكثرة أعدائه أو قتلهم، وإنما كان همه وهم من معه الصبر والثبات.
فلما رأى ألفونس ورجاله ينضمون إليه شكر الله على ذلك، وازداد ثقة بالنجاح وحرض المسلمين على الثبات، حتى قضي على القوط بالفرار كما رأيت. وكانت تلك الموقعة الضربة القاضية على مملكة القوط، قتل فيها ملكهم ونخبة من قوادهم.
التوبيخ
فلما فرغ الجند من الحرب وتراجعوا إلى خيامهم، أمر طارق بحمل الغنائم والسبايا والأسرى إلى ما بين يديه على جاري العادة بعد كل قتال. فحملوا كل ما غنموه من العدة والسلاح والآنية والذخيرة والجواهر والتحف، وأكثرها من الصلبان والخواتم، وفيها الفضة والذهب بين مرصع وغير مرصع، وجاءوا بالأسرى وفيهم المقيد والموثق والسليم والجريح. فتجمع من ذلك كله شيء كثير، حتى أصبحت الأسلاب ركاما أمام الفسطاط، والأسرى جماعات مشدود بعضهم إلى بعض بأعناقهم أو أيديهم أو أرجلهم، والرجال لا يزالون يأتون بهم زرافات ووحدانا.
ناپیژندل شوی مخ