139

فتح اندلس

فتح الأندلس

ژانرونه

فلورندا وبدر

أما فلورندا فظلت بعد ذهاب سليمان من عندها في ذلك الصباح جالسة إلى النافذة تراقب حركات الجند وسكناته، وكان أكثر اهتمامها بالميسرة لعلمها أن ألفونس هناك، ولا تسل عن اضطرابها وقلقها. فلما رأت الميسرة تهرع إلى معسكر العرب اطمأنت وأيقنت بالفرج ورقص قلبها طربا. وكانت الخالة واقفة إلى جانبها ونظرها قصير فأخبرتها بما رأته فشاركتها الفرح. وكان أجيلا وشانتيلا واقفين على مرتفع بجانب المستودع يراقبان حركات القتال، فلما رأيا ميسرة القوط انضمت إلى العرب أسرعا إلى فلورندا فأخبراها، ففرحوا جميعا، ووقفوا يتحدثون بما شاهده كل منهم في أثناء المعركة مما لم ينتبه له الآخر.

وبينما هم في ذلك إذا بالشيخ صاحب الكرم قد أسرع ومعه بعض غلمانه وأطفاله يركضون حتى صعد المستودع وهو يصيح: «أين سليمان التاجر؟ فإنه وعدنا بالحماية.»

فأطلت فلورندا من النافذة فرأت كوكبة من فرسان القوط يدفعون خيولهم بين الدالية، ولا يبالون بتكسيرها، حتى وصلوا إلى المستودع وفي أيديهم السيوف مسلولة، فلما رأتهم فلورندا علمت أنهم من رجال رودريك، فاصطكت ركبتاها وارتعدت فرائصها وصاحت: «أجيلا. شانتيلا.»

وكانا قد جاءا للدفاع قبل سماع صوتها ولم يباليا بكثرة الفرسان القادمين عليهما، وساعدهما على ذلك أولاد الشيخ ونساؤه، وعلت ضوضاء النساء والأطفال وفلورندا واقفة في النافذة مع خالتها وهي تقرع صدرها وتصلي إلى الله أن ينجيها، وتتوسل إلى السيد المسيح وإلى العذراء مريم أن يدفعا عنها ذلك الشر. ثم نظرت إلى أسفل المستودع فرأت أجيلا وشانتيلا قد وقعا قتيلين بعد أن قتل بضعة من رجال رودريك، فحزنت عليهما حزنا شديدا. ولكنها أصبحت في شغل من نفسها، ولم تجد من تستغيث به غير الله، فجثت في وسط المستودع وكشفت صدرها وحلت شعرها، ونظرت إلى السماء وجعلت تقول - وهي تلطم وجهها وتقرع صدرها وصوتها مختنق من شدة البكاء: «إلهي أنت نصير الضعفاء، يا إلهي أنت منقذ المظلومين. اللهم اشفق على صباي واحمني من هؤلاء الظالمين إكراما لدم ابنك المسفوك على الصليب.» ثم اختنق صوتها وبلعت ريقها، وعادت إلى الصلاة وهي لا تبالي بدبدبة الأقدام على السلم الخشبي المؤدي إليها، ولم تلتفت إلى شيء مما حولها، وإنما وجهت حواسها وعواطفها وأفكارها كلها إلى السماء وهي على ثقة تامة أن الله لا يتخلى عنها، وكانت خالتها جاثية بجانبها تعيد طلباتها وتؤمن عليها.

أما الفرسان فإنهم قتلوا الشابين وبضعة من أولاد الشيخ، وصعدوا إلى المستودع صعود الذئاب الخاطفة ورئيسهم يتقدمهم وهو من أهل بلاط رودريك، وكان قد شاهد فلورندا في طليطلة غير مرة، فلما رآها في المستودع لم يعرفها لما طرأ عليها من التغيير بسبب الأسفار، ثم ما كان من تغيير حالها في تلك الساعة وهي محلولة الشعر مكشوفة الصدر حاسرة الزندين، وقد توردت وجنتاها من اللطم والصفع، واحمرت عيناها وتكسرت أهدابها من البكاء، وكان الدمع قد بلل وجهها وامتزج بالعرق المتساقط على صدرها، فتبلل شعرها وقميصها. فلما رآها الفارس على تلك الحال وقد دخل ولم تنتبه له، ناداها فلم تجبه، فتقدم إليها وأمسكها بزندها وجذبها نحوه، فالتفتت إليه فرأت بيده الأخرى سيفا لا يزال يقطر دما، وقد تلطخت أنامله الأخرى بالدم، فلما شاهدت ذلك ازدادت رعبا ولكنها تجلدت وقالت: «ماذا تريدون؟»

قالوا: «نريد أن نمضي بك وبمن معك إلى الملك رودريك.»

فلما سمعت اسمه صاحت: «لا. لا. لا أذهب إليه.»

فقال لها الفارس: «سيري برضاك، وإلا أخذناك قهرا ولا أظنك تستطيعين النجاة من أيدينا ونحن جماعة» قال ذلك وصاح في رجاله فقبضوا عليها بيديها وجروها، والعجوز تصيح فيهم وتستعطفهم وما من مجيب، حتى نزلوا من المستودع، فأركبوها فرسا وأركبوا خالتها فرسا آخر وساقوهما، وفلورندا لا تزال محلولة الشعر مكشوفة الصدر محمرة الوجه دامعة العينين، وهي تستغيث بالله وتستنصره على القوم الظالمين، والفرسان لا يبالون بصياحها ونحيبها حتى انحدروا من تلك الأكمة وانتهوا إلى ساحة الحرب. فوقع نظر فلورندا على رودريك في موكبه وقد حمي وطيس الحرب والتحم الجيشان بين فارس وراجل، واختلط المسلمون بالقوط. والمسلمون يعرفون بعمائمهم البيضاء. وقد ضعف القوط حتى اضطر رودريك للنزال والدفاع بنفسه.

وكانت فلورندا قد يئست من النجاة، فودت لو أن نبلا من النبال المتساقطة يصيب صدرها فينجيها من رؤية رودريك، ثم التفتت فرأت فارسا من جند المسلمين يجول في المعمعة على مقربة منها وهو صبوح الوجه متناسب الملامح، ولولا عمامته وملابسه العربية لظنته قوطيا، وقد شد عمامته على رأسه شدا وثيقا واستل سيفه وأخذ يهاجم صفوف القوط فيبددها، ثم التفت إلى فلورندا فلما وقعت عيناه على عينيها صاحت فيه واستنجدته بلغة لم يفهمها، ولكنه فهم ما تريد بإشاراتها وملامحها، ووقعت من نفسه موقعا عظيما من أول نظرة وأسرع للدفاع عنها، فحول شكيمة جواده نحوها، وشهر سيفه وصاح: «أبشري يا مليحة أتاك بدر. لا تخافي.»

ناپیژندل شوی مخ