فقال يعقوب: «خرجنا من تلك الجلسة وكله اقتناع بنجاح مشروعنا، وقد أفهمته أن العرب إذا أخذوا البلاد أبقوا له كل أمواله وأعادوا الحكم إليه، وأن في فوزهم على رودريك سعادته، وأما إذا فاز رودريك فالعاقبة تكون على رأسه ورأس عمه وسائر أهله. وأخبرته بأن سقوط رودريك يتوقف على أمر واحد لا يقدر عليه أحد سواه، وذلك بأن ينضم هو ومن معه إلى جانب العرب يوم المعركة الأولى، فاقتنع وتعاهدنا على ذلك.»
فقال سليمان: «ثم ماذا؟»
فمد يعقوب يده إلى جيبه وأخرج لوحا مشمعا - من ألواح الكتابة عندهم في ذلك العصر - ودفعه إلى سليمان، وقال: «وفيما نحن مطمئنون بذلك جاءه هذا الكتاب من عمه أوباس.»
فتناول سليمان اللوح ونظر إليه، فلم يستطع قراءته لشدة الظلام، فابتدره يعقوب قائلا: «لا تتعب نفسك في قراءته فإني قد حفظته حرفا حرفا؛ لكثرة ما قرأته وأعدت قراءته، من شدة غيظي من أوباس، مع فرط إعجابي به، وها أنا أتلو عليك نص الكتاب كما هو، فأصغ إلي.» ثم قال:
من الميتروبوليت أوباس إلى الابن المحبوب ولدنا ألفونس
أما بعد فقد بلغني ما ارتكبه ولدنا الكونت يوليان من الخطأ في حملته على رودريك بجند العرب، ولا أظنه فعل ذلك إلا انتقاما لابنته، وكأني بك لما بلغك الخبر سررت به لأنه يشفي ما في نفسك، فأخشى أن يسوقك الغضب البشري إلى ما ساق إليه ولدنا المذكور فتوافقه على ما يضيع هذه المملكة ويبيد هذه الدولة، فتهدمون في يوم واحد ما بناه أجدادكم في أجيال، وتدور الدوائر علينا وعليكم جميعا، فإذا كان قد خطر ببالك شيء من ذلك فانزعه عنك فإنه من حبائل الشيطان، واتحد مع ملك القوط للدفاع عن مملكة القوط. وأما ما بيننا وبين رودريك من التباغض فإننا نتنازع عليه بعد الفراغ من محاربة الغرباء، فرجائي أن تصغي إلى نصحي ولا تقبل قول سواي، والسلام.
فلما سمع سليمان نص الكتاب قال: «والله إنه قول رجل عاقل، ولكنه إذا عمل به فالضربة تعود علينا نحن اليهود، ولا سيما إذا فاز رودريك وسأل بعض الأسرى وعلم بجمعياتنا ودسائسنا ومساعينا ضده، والذي أراه من قلة جند العرب مع بسالتهم وصبرهم أن ألفونس إذا لم ينضم إليهم فالكفة راجحة في جانب رودريك، والعياذ بالله.»
فقال يعقوب: «ذلك هو اعتقادي ولكنني قد استنفدت الحيل في سبيل إقناعه، وأنت تعلم يا سليمان كم بذلت من الوقت والسعي من أيام غيطشة لإنقاذ شعب الله من هذا الجور، فتركت منصبي وتنازلت عن أموالي، وتظاهرت بالنصرانية وجعلت نفسي خادما أهيئ الطعام وأخدم على المائدة. صبرت على ذلك أعواما حتى إذا بدا لي أن الفرج قد أقبل، أتانا أوباس باعتراضاته بعد أن كان أكبر نصير لنا، بل هو المحرك الأعظم لمشروعنا.»
فقال سليمان: «أما أوباس فإنه يحمد على هذا العمل بالنظر إلى العدل والحق، فهو لا يريد أن تخرج هذه المملكة من يد بني وطنه ودينه ولغته، ولا يريد أن يسلمها إلى أناس غرباء عنه دينا ووطنا ولغة. أما نحن فيهمنا إخراجها من هؤلاء القوط على الإجمال؛ لأن المسلمين خير لنا منهم، لما شاهدته من معاملتهم لليهود والنصارى في الشام ومصر، فإنهم يطلقون لهم الحرية، فيقوم كل منهم بطقوس ديانته كما يشاء، على أن يدفع مالا قليلا يسمونه الجزية، وزد على ذلك أننا أقرب نسبا للعرب؛ لأننا وإياهم من جد واحد هو إبراهيم كما تعلم، فهم يرفقون بنا بنوع خاص، فيجدر بنا، والحالة هذه، أن نكون عونا لهم في استيلائهم على هذه البلاد، نفعل ذلك سعيا لمصلحتنا، ولا يهمنا كلام أوباس ولا غيره.»
فقال يعقوب: «هذا هو الأمر الذي نتمناه، ولا سبيل إليه إلا بانحياز ألفونس إلى العرب؛ لأن ذلك يقلل من جند رودريك ويضعف من عزيمته، ولا يخفى عليك أن معظم رجال هذه الحملة يحاربون مع رودريك رياء وهم لا يحبونه، فإذا رأوا ابن ملكهم ينحاز إلى العدو هموا بأن يتبعوه أو أن يتقاعدوا عن الدفاع على الأقل.» قال ذلك ويده في لحيته يلاعب طرفيها بأنامله وشعرها لا يزال ملبدا بالأوساخ. وسكت هنيهة وسليمان ساكت، ثم قال يعقوب: «فالخلاصة أننا إن لم نستطع إغراء ألفونس على الخروج إلى معسكر العرب ذهبت مساعينا وأرواحنا وأموالنا أدراج الرياح، والسلام.»
ناپیژندل شوی مخ