فاستاء الأب مرتين من هذا التعريض وقال: «كأنك تقول إني أنا سبب ذلك الخطأ، فإذا كنت قد أشرت عليك بمشورة فاسدة، فقد كان الأجدر بك ألا تقبلها.» قال ذلك ومشى في وسط القاعة ويده اليسرى وراء ظهره، والأخرى يمسح بها ما تناثر من اللعاب على شفتيه ولحيته.
فشق ذلك على الملك وعدها إهانة أخرى وقال: «أتكون مخطئا وتضيع منا أحسن قوادنا ثم تنقم علينا وتستخف بأقوالنا ويكون الذنب مع ذلك ذنبنا؟»
فأجابه مرتين وهو يهز رأسه ويمشي دون أن يلتفت إليه: «صدقت أيها الملك، إن الذنب ذنبي، والخطأ كله خطئي، وكل هذه الشرور من نتائج أعمالي؛ لأني لو لم أسئ إلى بنت صاحب سبتة ما حاول والدها أن يكون عونا للعرب على فتح بلادي.» ثم وقف بغتة وحول وجهه إليه، وقد اشتد غيظه وارتعدت أطرافه وزاد لسانه تلعثما وتمتمة وقال: «أتخطئ يا رودريك ثم تلصق الخطأ بشيبتي، ثم إذا أهين الأساقفة كان الدفاع عنهم لا يعنيك وهم الذين ولوك هذا المنصب ونصروك وعضدوك؟ ألم يكونوا هم الذين دافعوا عنك بالأمس وسط المجمع واتهموا رجلا بريئا بتهمة لا أساس لها؟ ثم تقول إني كنت سببا في خسارة ذلك القائد، وأنت إنما خسرته بسوء تدبيرك وانهماكك فيما لا ينفعك. وبسوء تدبيرك أيضا خسرت الأب مرتين الذي لم يكن ينبغي أن تنسى تعبه في مصلحتك ودفاعه عنك.» قال ذلك والتف بردائه وخرج من القصر.
فلما خرج مرتين ظل رودريك وحده وقد خلا بنفسه وتصور عظم الخطر المحدق به، فجلس على كرسيه وألقى رأسه على كفيه وراجع ما مر به من الأحداث في الأشهر الأخيرة، وتذكر فلورندا ووالدها، فتحقق لديه أن يوليان إنما انحاز إلى العرب غضبا لها، فاشتد حنقه وتراكمت عليه الهواجس وعظم عليه الأمر، ولا سيما بعد أن فقد قائده وأساء إلى قسه فتشاءم من هذين الحادثين.
سرجيوس وأوباس
واتفق وصول الرئيس سرجيوس ثاني يوم الخصام، فنزل في الكنيسة الكبرى على جاري عادة الأساقفة ورؤساء الأديرة إذا جاءوا طليطلة، فلقي هناك الأب مرتين وعهده به في قصر الملك، فسلما وتخاطبا مليا في شئون مختلفة، والرئيس يستطلع ما في نفس مرتين. وكان الأب مرتين على كبر سنه حاد المزاج سريع التأثر متسرعا فيما يخطر له كما تبين لك من وصف أخلاقه، فلم يخف عن سرجيوس شيئا مما وقع بالأمس له وللكونت كوميس. وحملته حدة مزاجه وتسرعه على الإيقاع برودريك والتنديد بفساد رأيه كأنه من ألد أعدائه، وهو انقلاب غريب لا يحدث إلا عند أصحاب المزاج العصبي أو الدموي الحاد.
أما سرجيوس فقد جاء طليطلة وهو لا يتوقع سبيلا إلى مقابلة أوباس أو إنقاذه، فلما لقي مرتين هان عليه ذلك، فذكر أوباس بين يديه وزعم أنه سمع بسجنه. فلما سمع مرتين اسم أوباس تذكر ما كان من اعتدائهم عليه وأنه سجن ظلما، أو على الأقل أسيء إليه بتهمة لم تثبت عليه. ونظرا لغضبه على رودريك رأى في انتصاره لأوباس ما يشفي بعض غليله انتقاما من ذلك الملك، فقال لسرجيوس: «إن أخانا أوباس سجن لتهمة اتهمه بها رودريك، وقد حوكم فلم تثبت عليه التهمة فأجلت المحاكمة وسجن إلى أجل غير مسمى ريثما تعاد محاكمته، ولكن يظهر أن الملك لن يطلب العود إليها.»
فقال سرجيوس: «وهل تظن أنه يظفر بالبراءة إذا استأنفوا محاكمته؟»
فقال مرتين: «لا ريب عندي في ذلك.»
قال: «ولماذا لم يطلب الاستئناف؟»
ناپیژندل شوی مخ