فلما سمع الرئيس ذلك هز رأسه، وقال في نفسه: «قد انقضت دولة هذا الباغي وربما انقضت بانقضائها دولة القوط كلها.» ثم التفت إلى فلورندا وقال: «إذن لو ذهبت الآن إلى أوباس أخبرته بهذا الخبر الجديد وأطلعته على هذا الكتاب، ولا أظن أهل البلاط قد علموا به بعد، ثم نحتال في إخراجه من ذلك السجن ونأتي به إلى هذا الدير يقيم فيه معنا، وطالما كان أبوك مع العرب فنحن في مأمن منهم إذا هم غلبوا، وإذا غلبوا فلا يكون علينا بأس من رودريك لأننا لم نتعرض لحربه.»
فتضاعف سرور فلورندا لما سمعت عزم الرئيس على استقدام أوباس إليه. وبعد بضعة أيام ذابت الثلوج وانكشفت الطرق فركب سرجيوس بغلته ومشى خادمه في ركابه إلى طليطلة.
القائد كوميس
أما رودريك فقد جاءه كتاب صاحب بوتيكة ينبئه بنزول العرب بلاده، فأطلع الأب مرتين عليه قبل عرضه على رجال دولته، فأوهمه الأب المذكور أن العرب إنما يريدون الغزو لا الفتح، فإذا أصابوا غنيمة عادوا على أعقابهم، وأنهم لا يجسرون على مناوأة ملك القوط، وفي الحقيقة إن العرب كثيرا ما كانوا يسطون على ما يلي مملكتهم من الثغور فيغزون البلاد ويعودون بما يقع في أيديهم من ماشية أو نحوها؛ فارتاح رودريك لذلك الرأي لقربه من المعقول ولم يطلع رجال حكومته على الكتاب. ثم جاء طليطلة بعض الذين شاهدوا العرب بخيلهم وإبلهم، وقد ملكوا الجبل (جبل طارق) ومعهم يوليان صاحب سبتة يدلهم على عورات البلاد ويسهل عليهم الفتح، وأخبروا قائد الجند العام بذلك.
وكان قائد جند رودريك رجلا باسلا دموي المزاج حاده، اسمه الكونت كوميس، له وجاهة وسطوة عند رودريك. وكان قد لحظ فيه ميلا إلى فلورندا، فنصحه أن يتركها، فلم يكترث بقوله فتركه وشأنه وفي نفسه شيء عليه، فلما سمع بفرار الفتاة ومحاكمة أوباس نصح له سرا أن يعدل عن محاكمة هذا الرجل لئلا يفضحه. وكان من جملة نصائحه له ألا يصغي إلى مرتين وغيره من جماعة الأكليروس ، فلما جاءه الخبر بنزول العرب إسبانيا ومعهم يوليان، اعتز بفوزه فيما أشار به على رودريك من أمر فلورندا فزاده ذلك جرأة عليه واستخفافا به، واستغرب كتمانه نزول العرب عنه، وكان يستبعد ألا يكون على علم بنزولهم، فذهب إليه ذات صباح وهو في مجلس حضره كبار الموظفين وكلهم كونتات. وكان أصحاب مناصب الدولة الكبرى عند القوط لا يزيدون على عشرة منهم: (1) ناظر الأرضين الملكية واسمه كونت الوطن. (2) رئيس الإصطبلات ويسمى كونت الإصطبل. (3) كاتب سر المملكة واسمه كونت السجلات. (4) رئيس القضاة وهو كونت النعم. (5) قائد الجند. (6) صاحب الخزنة. (7) قيم القصر الملكي. ومن أصحاب رتبة الكونتية عندهم أيضا رئيس السقاة ونحوه ممن يخدمون الملك.
كان مجلس الملك حافلا بهؤلاء والأب مرتين بجانبه، فدخل الكونت كوميس وسلم كالعادة، وأمارات الغضب بادية على وجهه، وبعد أن استقر به المجلس سأل الملك إذا كان قد بلغه شيء من أخبار بوتيكة.
فقال الملك: «لا أدري، هل سمعت شيئا مهما؟»
فقال بصوت خشن: «سألت حضرة الملك: هل جاءه خبر مهم من تلك المقاطعة؟»
فغضب رودريك لهذه المراجعة بما فيها من الجسارة والقحة فقال: «ما معنى هذه المراجعة بعد ما سمعته من جوابي؟» واعتدل وتصدر وجعل يداعب شعر رأسه المرسل على كتفيه وقد بدا الغضب في عينيه، وأصبح سائر الكونتية ينظرون بعضهم إلى بعض وإلى كوميس ورودريك، ويتساءلون عن سبب هذه الجسارة.
أما كوميس فلما رأى الحضور ينتظرون ما يقوله، وقد شخصت أبصارهم نحوه بعد ما أبداه رودريك من الجفاء، عظم الأمر عليه. وقواد الجند من أعظم الناس أنفة وشدة، إذا حمي غضبهم لا يبالون بالتيجان ولا بالصوالجة ولا يعبئون إلا بشدة بطشهم، وخصوصا في ذلك العصر والكلمة النافذة لصاحب الجند القوي. وكان كوميس فوق كل ذلك قد استصغر شأن الملك مما علمه من تهوره في مسألة فلورندا وأوباس. فلما سمع كلامه بتلك اللهجة الشديدة قال: «أظن حضرة الملك لا يجهل معنى سؤالي ولو تجاهله. معنى سؤالي أيها الملك أنه حدث في المملكة ما يدعو إلى إطلاعنا عليه وقد كتمته، وهو من الأهمية بحيث يجعل المملكة في خطر.»
ناپیژندل شوی مخ