وأما من عمل عملا أصله مشروع وقربة، ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع، أو أخل فيه بمشروع فهذا مخالف أيضا للشريعة بقدر إخلاله بما أخل به، أو إدخاله ما أدخل فيه، وهل يكون عمله من أصله مردودا عليه أم لا؟ فهذا لا يطلق القول فيه برد ولا قبول، بل ينظر فيه، فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل، أو شروطه، موجبا لبطلانه في الشريعة، كمن أخل بالطهارة للصلاة مع القدرة عليها، أو كمن أخل بالركوع، أو بالسجود، أو بالطمأنينة فيهما، فهذا عمله مردود عليه، وعليه إعادته إن كان فرضا، وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان العمل، كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها، ولا يجعلها شرطا، فهذا لا يقال: إن عمله مردود من أصله بل هو ناقص، وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع، فزيادته مردودة عليه، بمعنى أنها لا تكون قربة، ولا يثاب عليها، ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله؛ فيكون مردودا، كمن زاد في صلاته ركعة عمدا مثلا، وتارة لا يبطله ولا يرده من أصله، كمن توضأ أربعا أربعا، أو صام الليل مع النهار، وواصل في صيامه. وقد يبدل بعض ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه، كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرم، أو توضأ للصلاة بماء مغصوب، أو صلى في بقعة غصب، فهذا قد اختلف العلماء فيه: هل عمله مردود من أصله؟ أو أنه غير مردود، وتبرأ به الذمة من عهدة الواجب؟ وأكثر الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله، وقريب من ذلك الذبح بآله محرمة، أو ذبح من لا يجوز له الذبح، كالسارق، فأكثر العلماء على أنه تباح الذبيحة بذلك، ومنهم من قال: هي محرمة، وكذا الخلاف في ذبح المحرم للصيد، لكن القول بالتحريم فيه أشهر وأظهر؛ لأنه منهي عنه بعينه، ولهذا فرق من فرق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة، # فيبطلها، وبين أن لا يكون مختصا بها، فلا يبطلها، فالصلاة بالنجاسة، أو بغير طهارة، أو بغير ستارة، أو بغير قبلة، يبطلها، لاختصاص النهي بالصلاة، بخلاف الصلاة في الغصب. ويشهد لهذا أن الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما ينهى عنه فيه بخصوصه، وهو جنس الأكل، والشرب، والجماع، بخلاف ما نهي عنه الصائم لا بخصوص الصيام، كالكذب، والغيبة. عند الجمهور، وكذلك الحج لا يبطله إلا ما نهي عنه في الإحرام، وهو الجماع ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام من المحرمات، كالقتل، والسرقة، وشرب الخمر، وكذلك الاعتكاف إنما يبطل بما نهي عنه فيه بخصوصه، وهو الجماع، وإنما يبطل بالسكر لنهي السكران عن قربان المسجد، ودخوله، على أحد التأويلين لقوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} . [النساء: 43] . أن المراد مواضع الصلاة، فصار كالحائض، ولا يبطل الاعتكاف بغيره من ارتكابه الكبائر عندنا، وعند كثير من العلماء، وإن خالف في ذلك طائفة من السلف، منهم: عطاء، والزهري، والثوري، ومالك، وحكي عن غيرهم أيضا. وأما المعاملات كالعقود، والفسوخ، ونحوهما فما كان منها تغييرا لأوضاع الشريعة؛ كجعل حد الزنا عقوبة مالية، وما أشبه ذلك، فإنه مردود من أصله، لا ينتقل به الملك؛ لأن هذا غير معهود. وما كان منها عقودا منهيا في الشرع، إما لكون المعقود عليه ليس محلا للعقد، أو لفوات شرط فيه، أو لظلم يحصل به للمعقود معه، أو عليه، أو لكون العقد يشغل عن ذكر الله الواجب عند تضايق وقته، أو غير ذلك، فهذا العقد هل هو مردود بالكلية لا ينتقل به الملك أم لا؟ هذا الموضع قد اضطرب الناس فيه، وذلك أنه ورد في بعض الصور أنه مردود لا يفيد الملك، وفي بعضها أنه يفيده، والأقرب إن شاء الله تعالى أنه إن كان النهي عنه لحق الله # تعالى؛ فإنه لا يفيد الملك بالكلية، ومعنى كون الحق الله: أنه لا يسقط رضا المتعاقدين عليه. وإن كان النهي عنه لحق آدمي معين، بحيث يسقط برضاه، فإنه يقف على رضاه به، فإن رضي لزم العقد واستمر الملك، وإن لم يرض به فله الفسخ، فإن كان الذي يلحقه الضرر لا يعتبر رضاه بالكلية، كالزوجة والعبد في الطلاق والعتاق؛ فلا عبرة برضاه وبسخطه. وإن كان النهي رفقا بالمنهي خاصة لما يلحقه من المشقة، فخالف وارتكب المشقة، لا يبطل بذلك عمله. فأما الأول فله صور كثيرة منها: نكاح من يحرم نكاحه، إما لعينه كالمحرمات على التأبيد بسبب أو نسب، أو للجمع، أو لفوات شرط لا يسقط بالتراضي بإسقاطه، كنكاح المعتدة المحرمة، والنكاح بغير ولي، ونحو ذلك. وقد روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين رجل وامرأة تزوجها وهي حبلى" 1،فرد النكاح لوقوعه في العدة. وأما الثاني، فله صور عديدة منها: إنكاح الولي من لا يجوز له إنكاحها بغير إذنها، ومنها: بيع المدلس ونحوه، كالمصراة، وبيع النجش، وتلقي الركبان، ونحو ذلك. وفي صحته كله اختلاف مشهور. وذهب طائفة. وأما الثاني، فله صور عديدة منها: إنكاح الولي من لا يجوز له إنكاحها بغير إذنها، ومنها: بيع المدلس ونحوه، كالمصراة، وبيع النجش، وتلقي الركبان، ونحو ذلك. وفي صحته كله اختلاف مشهور. وذهب طائفة إلى بطلانه ورده، والصحيح أنه يصح، ويقف على إجازة من حصل له ظلم بذلك". انتهى كلامه ملخصا2.
ولما استدل الشيخ -رحمه الله - بما فيه أتم بيان لموجب خلق الجن والإنس، بدأ بما فيه أكمل وضوح لموجب إرسال الرسل.
تفسير الآية الثانية:
مخ ۶۱